كشفت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لإدارة بايدن عن أهداف واشنطن في أمريكا اللاتينية، والتي تتضمن بالأساس تعزيز النمو الاقتصادي المتبادل، وتعزيز التعاون الأمني والحد من تدفقات الهجرة، وهو ما يتزامن مع تحركات صينية في القارة، وذلك في إطار إعادة ترسيم الدور الصيني في الساحة الدولية، وبالرغم من الإدراك الأمريكي بمخاطر هذه التحركات، فإن عودة “ترامب” قد تؤدي إلى الفتور تجاه تعزيز الشراكة مع دول أمريكا اللاتينية.
الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية:
تستهدف رؤية الولايات المتحدة تجاه أمريكا اللاتينية على تحقيق عدد من الركائز، تشمل تحقيق شراكة اقتصادية متبادلة، فمن شأن الاستثمار في منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي أن يؤدي إلى نمو اقتصادي واستثمار موازٍ في الولايات المتحدة؛ وكذلك إقامة علاقة تجارية شاملة يمكن من خلالها تقديم السلع والخدمات بصورة مستمرة؛ وتدشين شبكة من سلاسل التوريد المبسطة والفعالة في القطاعات ذات الأهمية الاستراتيجية، وتتضمن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2022 تشكيل جبهة موحدة تتولى مواجهة التطورات البيئية الناجمة عن التغييرات المناخية، ووضع الاستراتيجيات اللازمة للتخفيف من آثار التغير المناخي والتكيف معه ودخولها حيز النفاذ.
كما تعمل الولايات المتحدة على ترسيخ مكانتها في هذه المنطقة كرائدة في الابتكار والتحول في مجال الطاقة، مع التركيز على الطاقة المتجددة وتطويرها، وتحسين كفاءة الطاقة، والتكنولوجيات منخفضة الكربون التي يمكن أن تدفع الإمكانات الاقتصادية للمنطقة، يُضاف إلى ذلك تعزيز الأمن، من خلال النهوض بشراكة إقليمية جديدة لمكافحة التنظيمات الإجرامية العابرة للحدود الوطنية، وتحجيم إنتاج وانتشار المواد المخدرة على طول الحدود، والحد من تدفق المهاجرين، وكذلك ترسيخ المؤسسات الديمقراطية من خلال تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد ودعم الإصلاحات القضائية وتمكين منظمات المجتمع المدني[1].
الأولويات الصينية في أمريكا اللاتينية:
منذ وصول الرئيس الصيني “شي جين بينغ” إلى سدة الحكم، عمل على إعادة ترسيم الدور الصيني في الساحة الدولية، وهو ما برز في مخرجات مؤتمر الحزب الشيوعي الأخير من مقاربات جديدة بشأن التعامل مع الأوليات المطروحة في مناطق النفوذ، ليتضمن قيادة دول الجنوب العالمي التي تشمل دول أمريكا اللاتينية، وقد ظهر ذلك من خلال تفعيل دبلوماسية التنمية، حيث تسعى بكين لتضمين المنطقة في مبادرة الحزام والطريق ومبادرة التنمية العالمية، وهو الأمر الذي يرتبط بتحقيق عدة أهداف، أبرزها[2]:
الاستثمار والتبادل التجاري:
تأتي اهتمامات الصين في أمريكا اللاتينية مدفوعة في المقام الأول بطلبها على الموارد الطبيعية، ولم تكتف بكونها مجرد مستورد للموارد الطبيعية من القارة، ولكن وسعت أيضًا من الفرص التجارية في أمريكا اللاتينية لصادرات التصنيع الصينية المتقدمة، حيث تتعامل الصين أيضًا مع دول القارة باعتبارهم عملاء نهائيين للصادرات التكنولوجية الصينية، من السيارات الكهربائية إلى تعزيز البنية التحتية الرقمية.
الحد من الفقر:
عملت بكين على مساعدة دول أمريكا اللاتينية في الحد من الفقر من خلال تكثيف الجهود الرامية إلى مواجهة العجز في البنية التحتية، بما في ذلك تأسيس الموانئ بطول القارة مثل ميناء “تشانكاي” الذي يساعد كل من بيرو وتشيلي على تصدير النحاس إلى أسيا والصين، وكذلك خطط بناء خط سكك حديدية إلى الشرق، وسيكون الميناء أيضًا بمثابة نقطة تصدير رئيسية للمنتجات الزراعية البرازيلية والمعادن والفلزات، وكذلك تعمل بيرو أيضًا على وضع خطة لتحويل مدينة تشانكاي إلى مركز رئيسي لنقل الزوار إلى المواقع السياحية الشهيرة في البلاد، مع وجود مطار يوفر رحلات جوية إلى كوزكو وأريكويبا ومناطق أخرى.
تعزيز نظم الحكم المحلية:
تعرضت القارة لموجة من التحول الديموقراطي في تسعينيات القرن الماضي، ومع ذلك، فقَد النموذج الديموقراطي جاذبيته في التعامل مع الأزمات التي تواجهها دول القارة من الإقصاء الاجتماعي وتعسر في تقديم الخدمات العامة سواء تعليم أو رعاية صحية، لذلك صعدت نخبة من الحكومات الشعبوية في العديد من دول القارة مثل المكسيك والبرازيل الأرجنتين والأكوادور وهندوراس، وعلى الرغم من اختلاف الأجندات السياسية لتلك الدول، فإنهم اتفقوا على فشل النموذج الديموقراطي والقيم الغربية في توفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين، وبرزت الحاجة إلى البحث عن شركاء جدد، وظهر النموذج الصيني في أمريكا اللاتينية كطرح بديل لمواجهة أزمات القارة.
التعاون الأمني والعسكري:
على الرغم من الخطاب الصيني الذي يعتمد بصورة أساسية على الصعود السلمي ومساعدة الدول على تحقيق التنمية، فإن التحركات الصينية تستهدف أيضًا إزعاج الولايات المتحدة في فنائها الخلفي، وذلك عن طريق تدشين منشآت أمنية وتدعيم التعاون العسكري مع دول القارة، حيث رُصدت عدة مواقع يُزعم أنها صينية في كوبا، كما شارك عدد من المسئولين العسكريين الكوبيين والصينيون في اجتماعات روتينية مشتركة، وقد أُجريت مناقشات بين الصين وكوبا لتأسيس منشأة عسكرية في الجزيرة[3].
وقد زادت الصين من عمليات التبادل والتدريب والمناورات مع جيوش بعض دول أمريكا اللاتينية، فمثلًا، أجرت بالتعاون مع البرازيل تدريبات عسكرية مشتركة حملت اسم “عملية فورموزا”، مما أتاح فرصة لتنمية شبكات النفوذ والتبادل في موضوعات مثل التدريب والعقيدة العسكرية، وقد استشعرت الصين أيضًا وجود فرصة للتنافس مع الولايات المتحدة من خلال زيادة التعاون الشُرطي في المسائل الأمنية المدنية[4].
عودة ترامب:
رشح الرئيس المنتخب “دونالد ترامب” النائب الجمهوري “ماركو روبيو” لتولي منصب وزير الخارجية، وهو معروف بتوجه المتشدد تجاه الصين وكوبا ونيكاراغوا وفنزويلا، كما اختار “مايك والتز” لشغل منصب مستشار الأمن القومي، مما ينذر بمزيد من التدقيق في العلاقات الأمريكية الصينية.
وقد يعمل الرئيس ترامب على تحجيم برامج المساعدات والتنمية لدول القارة، وإعادة تفعيل منظومة العقوبات الاقتصادية على بعض الدول مثل فنزويلا وكوبا، حيث أعلن خلال حملته الانتخابية أنه سيفرض رسومًا جمركية بنسبة 25% على الصين لتصديرها سلائف الفنتانيل الكيميائية إلى المكسيك، كما أشار إلى أنه سيعمل على إدراج صيغة في اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا خلال عملية المراجعة لعام 2026 من شأنها أن تفرض قيودًا على المنتجات التي تصنعها الشركات الصينية التي تدخل الولايات المتحدة، بصورة تضمن تعزيز مصالحها الاقتصادية، خاصةً أن القارة تعتمد بصورة أساسية على الصادرات الأمريكية.
وبالتالي، فإنه من غير المرجح أن تعمل الإدارة الأمريكية القادمة على تعزيز الشراكة مع دول أمريكا اللاتينية، وذلك بالنظر إلى الأزمات التي تتدفق عبر الحدود إلى الداخل الأمريكي من هذه المنطقة، سواء المهاجرين أم الأسلحة والمواد المخدرة، واختلاف النماذج المعيارية الحاكمة بين الولايات المتحدة وبعض دول القارة، والتراجع الاقتصادي الذي تشهده الأخيرة، وبذلك لن تكون ذات ثقل جاذب للاستثمارات الأمريكية، وهو الأمر الذي قد يسهم في نهاية المطاف إلى تعزيز العلاقات الصينية اللاتينية.
[1] Jason Marczak, (et al), “redefining us strategy with Latin America and the Caribbean for a new era”, Atlantic council. 26 February 2024. Available at https://www.atlanticcouncil.org/in-depth-research-reports/report/redefining-us-strategy-with-latin-america-and-the-caribbean-for-a-new-era/
[2] Yu Jie, “What China Got Right in Latin America”, foreign policy. 16 December 2024. Available at: https://foreignpolicy.com/2024/12/16/china-latin-america-united-states-development-diplomacy-investment/
[3] Matthew P. Funaiole, (et al), “China’s Intelligence Footprint in Cuba: New Evidence and Implications for U.S. Security”, center for strategic and international studies. 6 December 2024. Available at: https://www.csis.org/analysis/chinas-intelligence-footprint-cuba-new-evidence-and-implications-us-security
[4] Ryan C. Berg, “Ending the Strategic Vacuum: A U.S. Strategy for China in Latin America”, center for strategic and international studies. 2 February 2024. Available at: https://www.csis.org/analysis/ending-strategic-vacuum-us-strategy-china-latin-america