الافتتاحية
لواء / طارق عبد العظيم
رئيس المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط
يحتفي المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط -الذي أشرف برئاسته- بصدور العدد المئوي من مجلة أوراق الشرق الأوسط وهو العدد الذي ضم سلسلة مقالات بحثية متخصصة على حدود القوة الإسرائيلية فى الشرق الأوسط ومستقبل النظام الإقليمي وتأثير الميليشيات المسلحة على الاستقرار السياسي فى الإقليم وأهم المتغيرات الدولية الراهنة وتداعياتها على الشرق الأوسط والأنماط المستجدة فى ظاهرتي الإرهاب والجريمة العابرة إضافة لإشكاليات المؤسسات والتحالفات الإقليمية والعربية، وقد اعتني العدد بتقديم ملف هام عن السياسات الروسية والأمريكية والإسرائيلية الشرق الأوسط ،إضافة للرؤية الخليجية ومحددات الرؤية التركية الراهنة ازاء الشرق الأوسط وغيرها من الموضوعات المهمة والواقع أن المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط يمتلك رصيدًا بحثيًا وتاريخيًا وأكاديميًا كبيرًا باعتباره من أقدم مراكز البحث فى مصر والمنطقه، حيث أنشيء المركز عام 1989 وهو ما يتيح له مساحة كبيرة من التحرك، في دوائر البحث المتخصصة.
وقد بني المركز القومي رصيدًا علميًا متراكمًا يتضح من سلسلة إصداراته المتخصصة والتى تراكمت خلال العام البحثي الأخير فى عدد من الموضوعات السياسية والاقتصادية والقانونية والاستراتيجية والإعلامية وبما يتيح له التواصل مع المراكز المعنية كل فى تخصصه ومن خلال فريق العمل الأكاديمي بالمركز وقد حظي المركز القومي بتقدير كبير من الجماعة العلمية المصرية والعربية، وقد جاء ذلك نتيجة متابعة المركز لأهم القضايا التي تمس الأمن القومي المصري، مع تقديم الرؤى والمقاربات الواعية وبرؤية موضوعية.
وإيمانًا من المركز بأن العالم يتغير والبيئة الإقليمية والدولية تتحرك فى مناخ مُتغير بالفعل يعلي من استخدام القوة العسكرية لحسم الصراعات فى الشرق الأوسط، وفي مناطق أخرى من العالم مثل تصاعد الأزمة الروسية الأوكرانية، والمواجهة الصامتة بين حلف الناتو وروسيا والصراعات المكبوتة فى جنوب شرق آسيا، إلا أن الواقع يُشير إلى أن الحسم، وإنهاء الصراعات بصورة أو بأخرى لم يعد مطروحًا فى أصوله بدليل ما يجري فى الشرق الأوسط حيث أوشكت حرب غزة على الانتهاء عسكريا بفعل القوة الإسرائيلية الهائلة التي استخدمت دون حسم ما يحدث فى اليوم التالي، كما أن تصاعد المواجهات فى الضفة الغربية، وانتقالها إلى مدن جنين ونابلس والقدس يؤكد استمرار مساعي الحكومة الإسرائيلية للمواجهة فى شمال الضفة، واتمام التحول من غزة إلى الضفة حيث الصراع الأكبر.
تبدو التطورات ماضية فى سياقات المواجهة التي تراها إسرائيل ذاهبة إلى خيارات غير صفرية ما يؤكد أن القوة هي التي ستحكم مسار العمل العسكري والسياسي وذلك فى إطار المساعي الإسرائيلية لرسم شرق أوسط جديد من أجل تأمين وجودها وحدودها، وهو ما سيؤكد أن الصراعات فى الشرق الأوسط – وفي مجملها – ستمضي فى سياقات محددة مثلما الوضع الجاري فى الحالة الليبية التي انفتحت على مشاهد عدة، وسيناريوهات مختلفة وربما قد يؤدي إلى بقاء الأمر على ما هو عليه منذ سنوات طويلة ممتدة، وهو ما ينطبق أيضًا على مسارات الأوضاع فى السودان، حيث ما زالت المواجهات تدور فى أطر محددة، ولاشك أن الأزمة اليمنية نموذج أيضًا لإستمرار الصراع، وعدم حسمه فى الإقليم بل أصبح له امتداداته الإقليمية والدولية فى البحر الأحمر وباب المندب وصولًا إلى الحرب الإسرائيلية فى قطاع غزة الأمر الذي يؤكد أن الحرب ممتدة بصور أو بأخرى وبما يدفع إلى استراتيجية مفتوحة على سيناريوهات متعددة.
في هذا السياق ستكون هذه الصراعات فى الشرق الأوسط ممتدة ومتسقة فى نطاقاها الإقليمي والدولية بدليل تعدد مسارح العمليات وتنوعها، ولكن – ومع استدعاء القوات الأمريكية فى الإقليم فى بعض الصدامات – فإن ما سيجري من خيارات سيكون مدفوعًا بحسابات كبرى، وتقييمات عسكرية تدفع بتركيز القوة الأمريكية بالمنطقة بحثًا عن مصالحها، وتخوفًا من أي رد فعل إيراني فى المقام الأول، أو بتحريك وكلائها خاصة حزب الله والتيار الحوثي عند الضرورة ما يؤكد على أن كل التطورات قائمة على الحل العسكري، وأن مناخ الخيارات السياسية قد أصبح محدودًا، وإن تم التعامل معه فمن أجل التأكيد على وجود فرص أخرى فى حين تعمل القوي الرئيسة على المواجهة بدليل أن الولايات المتحدة ما تزال تعمل على كل الخيارات التفاوضية فى أزمة غزة.
إن الإدارة الأمريكية المقبلة ستعمل فى سياق من الحسابات الصعبة سواء فى الأزمة الرئيسة فى الإقليم أي حرب غزة، ومستقبل الضفة ومرورًا بإقرار خيار التهدئة فى البحر الأحمر، وتسكين الأزمة إلى حين مع إيران فى حال استيعابها فى الفترة المقبلة من خلال مقاربة البرنامج النووي، والدخول فى مقاربات أشبه بالمقايضات السياسية المباشرة، والتي تعمل فى اتجاه واحد ما يؤكد على أن الصراعات الكبرى فى الشرق الأوسط لا تختلف كثيرًا عن الصراعات فى مناطق أخرى من العالم بما فيها الصراعات الساكنة، والتي تدور حول طرف رئيسي دولي وأطراف فرعية إلى جانب أطراف أخرى تعمل فى مساحات متعددة بصورة، أو بأخرى ما يؤكد احتمالية ألا تشهد مناطق الصراعات بما فيها الشرق الأوسط حلولًا توافقية، وقد يؤدي ذلك إلى حلحلة بعض الأزمات بالفعل.
وفي تقديرنا أن الفترة القادمة خاصة مع تولى إدارة أمريكية جديدة لن يختلف الوضع كثيرًا عما يجري حاليًا، وإن كانت حدة المواجهات فى بعض الصراعات، ومنها ما يجري فى الشرق الأوسط سيكون مدخلًا مهمًا لمزيد من الصراعات الجزئية والمرحلية.
أسال الله أن يجعل هذا العدد التذكاري مدخلًا جديدًا لمهام وعمل المركز الذي أتشرف برئاستي له فى توقيت بالغ الأهمية وهو ما يتطلب بذل المزيد من الجهد من أجل رفعة مصر وحماية وصون أمنها القومي لمواجهة كل التحديات الحالية والمتوقعة والله المستعان.
Isuue-100