كثفت تركيا في الآونة الأخيرة من تحركاتها تجاه سوريا على عددٍ من المستويات، حيث يُلاحظ التركيز على الملف الاقتصادي، عبر سعي أنقرة لزيادة حضورها في غالبية قطاعات الاقتصاد السوري، في إطار تعزيزها لعلاقات التعاون الاقتصادي الإقليمية، وبما ينعكس إيجابًا على اقتصادها المحلي في المقام الأول، وبالرغم من الفرص المتوفرة لتركيا في الاقتصاد السوري، فإنه قد يواجهها العديد من التحديات.
تحرك مكثف:
يُعد المحور الاقتصادي من أبرز المحاور التي تسعى تركيا للبناء عليه لتعميق علاقتها بسوريا بعد سنوات من النزاعات البينية، وقد تكون الفرصة الحالية هي الأوفر لتحقيق ذلك الهدف، فقد شدد الرئيس التركي، في خطاب أمام اجتماع الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية في 25 ديسمبر 2024، على أن بلاده ستدعم سوريا في جميع المجالات، من الطاقة والنقل إلى التعليم والصحة والأمن والتجارة، وستساعد الإدارة السورية الجديدة على تعزيز قدرتها المؤسسية، فيما كشف عدد من المسئولين الأتراك مؤخرًا عن بعض الملفات الاقتصادية التي يمكن التعاون فيها مع سوريا، أبرزها ما يلي:
- قطاع الطاقة: ذكر وزير الطاقة التركي أن بلاده تسعى لتزويد سوريا بالكهرباء من خلال الاستيراد في المرحلة الأولية، وفي الأمد المتوسط، تعتزم أيضًا زيادة الطاقة الكهربائية والقدرة الإنتاجية هناك (من خلال تعزيز البنية التحتية)، ولفت إلى إمكانية تصدير الكهرباء لسوريا عبر الشبكة المشتركة بين البلدين، بالإضافة إلى استخدام السفن الكهربائية العائمة، وفي قطاع النفط والغاز الطبيعي، فقد أكد أنه يمكن التعاون مع القيادة السورية الجديدة في هذا القطاع، وأن تركيا قد تعمل على استغلال موارد النفط والغاز الطبيعي في سوريا لإعادة إعمار البلاد، لاسيما مع انخفاض الإنتاج بشكل كبير خلال الحرب، وفي هذا الإطار هناك موضوعات تحتاج إلى مناقشة مثل إنشاء خط لأنابيب النفط من سوريا إلى تركيا ودمجه مع خط الأنابيب بين العراق وتركيا.
- قطاع النقل: أعلن وزير النقل والبنية التحتية التركي عن وضع خطة عمل للنهوض بمطار دمشق الدولي، مع العمل على ترميم السكك الحديدية، بينما أشارت مصادر إلى أن وزارة النقل التركية ستعمل أيضًا على إصلاح الجسور، وترميم طرق سريعة، إلى جانب تفعيل دور الموانئ السورية.
- طباعة البنكنوت: ذكر وزير النقل والبنية التحتية التركي أن بلاده قد تساعد السلطات السورية الجديدة في طباعة أوراق نقدية جديدة، والتي كانت قد طبعت في دول أخرى، وقد بدأ العمل في هذا الاتجاه بالتنسيق مع عدة جهات.
مصالح تركية:
يتزايد الاهتمام التركي بملف التعاون الاقتصادي مع سوريا نظرًا لأن السوق السورية كبيرة نسبيًا (مُقدرة بأكثر من 24 مليون نسمة) ويمكنها أن تستقبل البضائع التركية بشكل متزايد خلال الفترة المقبلة في ضوء تراجع قدرات الإنتاج في سوريا، إلى جانب أن التعامل بالليرة التركية في العديد من المناطق في سوريا، قد يسهل عملية التبادل التجاري بين البلدين، وهو ما سيدعم بدوره الطلب على العملة التركية في مواجهة الضغوط التي تواجها، هذا وتسعى أنقرة للاستفادة من عامل القرب الجغرافي لزيادة بضائعها في السوق السوري.
إن جهود عملية إعادة الإعمار في سوريا قد تتيح رؤوس أموال وأعمال جديدة للشركات التركية في سوريا، بما يدعم تلك الشركات من جهة، وزيادة الحضور التركي في سوريا من جهة أخرى، وذلك لتكرار نموذج تواجد الشركات الروسية والإيرانية في سوريا أثناء فترة حكم النظام السابق، بحيث تصبح الشركات التركية دعامة رئيسية للنظام الاقتصادي السوري الجديد.
وتعد الأراضي السورية بوابة مهمة للانفتاح التركي على الدول العربية في الشطرين الآسيوي والأفريقي، أي أنها بمثابة ممر تجاري مضمون لتلك الدول، كما أن ذلك الممر يعتبر مكملًا لـ”طريق التنمية” العراقي الذي يجري العمل على تفعيله، بما يسهل تدفق البضائع بين تركيا ودول المنطقة، كما أنه في نفس الوقت يجعل تركيا نفسها معبرًا مهمًا لتدفق التجارة بين الدول العربية وأوروبا، ويدلل على ذلك سعي وزارة النقل التركية لتأهيل الموانئ والطرق البرية في سوريا.
كما يوفر الربط الكهربائي التركي السوري إمكانية إحياء خط الربط الكهربائي الثماني، والذي يجعل أنقرة تندمج في مشروعات الربط الكهربائي العربية، ويجعلها أيضًا مركزًا رئيسيًا للربط بين شبكات الكهرباء الآسيوية والأوروبية والأفريقية، وبما يدعم مستهدفها بأن تصبح مركزًا تجاريًا للطاقة، حيث يمكن أن تصبح مركزًا لنقل الطاقة الكهربائية عبر الأقاليم المختلفة، بجانب السعي لأن تصبح مركزًا لنقل الغاز الطبيعي.
قد تسهم موارد سوريا من الطاقة في دعم أمن الطاقة التركي، في ضوء توفر احتياطي مؤكد من النفط يُقدر بنحو 2.5 مليار برميل، كذا احتياطي من الغاز الطبيعي يبلغ نحو 300 مليار متر مكعب (وفق بيانات “معهد الطاقة” في التقرير الإحصائي للطاقة 2024)، مع الأخذ في الاعتبار إمكانية وجود موارد بحرية من النفط والغاز لم تكتشف بعد قبالة سواحلها، مما دفع مسئولين أتراك لفتح ملف ترسيم الحدود البحرية بين البلدين.
إن الاعتماد على سوريا كممر للطاقة، سواء عبر إقامة أنبوب للغاز الطبيعي يمر من قطر للسعودية ثم الأردن ومنها إلى سوريا وتركيا، يزيد من الأهمية الاستراتيجية لسوريا، وهو ما يتوافق مع المخطط التركي بأن تصبح معبرًا للطاقة بين الدول المنتجة والمستهلكة، مع الأخذ في الاعتبار أن تحرك تركيا للتحول لمركز عالمي للغاز الطبيعي، قد يدفعها لاستقبال الغاز من كافة الدول من أجل تخزينه وإعادة توزيعه، لأن الاعتماد على الغاز الروسي فقط قد يؤدي إلى عدم اعتماد العديد من الدول المستوردة، خاصةً الأوروبية، على تركيا، في ظل سياسات تلك الدول لتقليص الاعتماد على الغاز الروسي.
وجدير بالذكر أن وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي قد أكد في 9 يناير 2025، أن بلاده تقوم حاليًا بتزويد سوريا بنحو 210 ميجاوات من الكهرباء يوميًا، فيما تشير التقارير إلى أن سوريا تستعد لاستقبال سفينتين تركية وقطرية لتوليد الكهرباء، لمدها بنحو 800 ميجاوات من الكهرباء، بما يشير إلى أن تركيا توفر حلولًا قابلة للتطبيق لدعم الاقتصاد السوري، ولكن تظل هناك بعض الملفات التي قد تكون غير قابلة للتنفيذ، على الأقل في المدى القصير، مثل شروع تركيا في إعادة إعمار سوريا، كذا مقترح مد أنبوب للغاز الطبيعي بين قطر وسوريا ومنها إلى تركيا.
تحديات ضاغطة:
يواجه التحرك التركي لزيادة الحضور الاقتصادي في سوريا بعض الإشكاليات، منها التحديات الاقتصادية التي تواجه تركيا، مع صعوبة توفير التمويل اللازم لدعم سوريا، وبما يشمله ذلك من دعم جهود إعادة الإعمار بمفردها، وبالتالي فإنها ستكون مضطرة للتعاون مع شركاء لتوفير ذلك الدعم، ولكن تظل هناك تحديات بذات الشأن، حيث أن تحرك العديد من الدول لدعم سوريا ماليًا لا يتطلب المرور عبر تركيا، خاصةً مع تباين مصالح الدول التي ستسعى لإعادة إعمار سوريا.
في المقابل تحتاج سوريا إلى حزم مالية ضخمة لإعادة إعمار وبناء الدولة في مواجهة التحديات الاقتصادية الحالية، حيث أن البنية التحتية للطاقة الكهربائية لا تعمل إلا بنسبة 3%، مما يعيق الأنشطة الاقتصادية الأساسية، كما أن البنية التحتية للنقل تعرضت لأضرار بالغة تحد من حركة التطور الاقتصادي ودعم التنمية، فضلًا عن حالة عدم الاستقرار المالي الناتجة عن انخفاض قيمة الليرة السورية (وفق بعض المصادر السورية).
وقد تواجه تركيا منافسة على حضورها في سوريا، لاسيما أن موقعها الجغرافي يقع على تقاطع العديد من الممرات الدولية بين الشرق والغرب، حيث تُعد سوريا محطة مهمة على طريق الحرير الجديد، مما يحفز الصين على تنفيذ مشاريع حيوية على الأراضي السورية، كما أن الدول الأوروبية قد ترى أن الأراضي السورية معبرًا مهمًا لمرور تجارتها لدول الشرق الأوسط، وبالتالي فقد تتحرك لزيادة حضورها الاقتصادي في سوريا، التي قد تصبح ساحة للتنافس بين العديد من الدول.
في ذات السياق، فإن هناك بعض الدول التي قد ترى أن التواجد التركي في سوريا سيشكل منافسة لمصالحها في الشرق الأوسط، مثل الهند التي قد تتحسب من زيادة الحضور الصيني/ التركي في سوريا لدعم طريق الحرير الجديد، مما يؤثر على خططها المستقبلية تجاه المنطقة، فضلًا عن إمكانية استحداث تركيا لممر يمر عبر أراضيها والأراضي السورية لربط دول الخليج العربي بأوروبا، والذي قد يكون بديلًا لممر الهند/ الشرق الأوسط/ أوروبا (المعروف بـ IMEC).
ويعزز من المخاوف الهندية تحرك تركيا لتفعيل طريق التنمية العراقي، وهو ما يأتي في إطار تحرك أشمل يستهدف أن تصبح الأراضي التركية مركزًا رئيسيًا لعبور التجارة بين الشرق والغرب، هذا مع الأخذ في الحسبان طبيعة العلاقات بين تركيا وباكستان الآخذة في النمو، والتي تنظر إليها الهند بحذرٍ شديد.
ويثير الحضور التركي المتزايد في سوريا المخاوف الإسرائيلية، مما دفع بعض الدراسات الإسرائيلية للمطالبة بتفعيل “خطة مارشال” التي تشمل إعادة إعمار سوريا وتقديم الدعم المالي والاقتصادي من خلال تحالفات إقليمية ودولية، وهو ما يمكن تل أبيب من التأثير في مستقبل سوريا الجديدة بما يخدم مصالحها في مواجهة المصالح التركية.
وختامًا، يرتهن تنامي العلاقات الاقتصادية التركية السورية بعدد من العوامل الداخلية والخارجية، إلا أن ذلك لن يمنع تركيا من مواصة جهودها لتعزيز حضورها في المشهد الاقتصادي السوري، خاصةً مع احتمالية تزايد المنافسة الدولية على الساحة السورية في ظل الارتباط بملفات أخرى مثل استمرار التواجد الروسي في الشرق الأوسط، والتحسب من تزايد النفوذ الصيني، مع التأثير على ملف الهجرة غير الشرعية وعودة السوريين في الخارج لبلادهم، وهو ما يفسر أهمية ملف الاستقرار الاقتصادي في سوريا خلال السنوات المقبلة، وكيف أن التفاعل مع ذلك الملف سيكون له أبعاد استراتيجية على الدول المؤثرة به.