تشهد العلاقات الأمريكية الأوربية خلال الفترة الراهنة حالة من التوتر في ظل تصريحات للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” حول عدد من الموضوعات التي قد تؤثر على المصالح الأوربية خاصة في شقها العسكري، ومن أبرز تلك الموضوعات توجهات ترامب تجاه حلف شمال الأطلنطي “الناتو”، بالإضافة إلى توجهاته نحو إنهاء الحرب الأوكرانية الروسية بشكل لا يتماشى مع المصالح الأوروبية.
موقف سلبي:
صرح الرئيس الأمريكي ترامب بموقفه تجاه الناتو عبر عدة تصريحات من أبرزها خلال لقائه مع وسائل الإعلام في البيت الأبيض يوم 23 يناير 2025 حيث أشار إلى عدم تأكده من أنه يجب على الولايات المتحدة إنفاق أي شيء على حلف الناتو، وأضاف “نحن نحميهم وهم لا يحموننا (فى إشارة للدول الأوروبية)”، وأنه يجب على الدول الأوروبية رفع نسبة المساهمة في الإنفاق على الدفاع للحلف من 2% إلى 5% من إجمالي الدخل القومي لكل دولة، مما أكد على خطابه السابق الذي تبناه أثناء حملته الانتخابية.
وقد سبق أن اتفق أعضاء حلف الناتو في عام 2014 على تحديد قيمة مساهمات الدول الأعضاء للإنفاق على الدفاع لتكون 2% قيمة من الناتج المحلى الإجمالي بحلول عام 2024، إلا أن عدد من الدول الأعضاء (مثل فرنسا وإيطاليا) لم تصل للنسبة المحددة حيث تجد صعوبة في توفيرها، إضافةً إلى عدم وجود الرغبة السياسية للوصول إلى هذا الهدف.
وخلال عام 2023، نشر الناتو مساهمات الدول الأعضاء للإنفاق على الدفاع حيث جاءت الإحصائية لأبرز الدول الأعضاء كما بالشكل الموضح، كما بلغت ميزانية الحلف لعام 2023 نحو (1.26) مليار دولار، أسهمت الولايات المتحدة بحوالي (860) مليون دولار، وهو الأمر الذي أثار تساؤلات ترامب حول جدوى استمرار مشاركة الولايات المتحدة في الحلف، وفق قاعدة التكلفة / العائد.

كما أعلن الحلف خلال عام 2024 عن دراسة زيادة الإنفاق الدفاعي لمعالجة فجوات القدرات، حيث أعلن أمين عام الحلف “مارك روته” في 14 فبراير 2024 إن الحلف يخطط لرفع المساهمة من 2٪ إلى ما يصل إلى 3٪ من الناتج المحلى الإجمالي بحلول عام 2030، جاء ذلك في إطار المخاوف الأمنية الأوروبية المتزايدة من روسيا خاصةً في ظال الحرب الأوكرانية.
وتتمحور رؤية ترامب تجاه حلف الناتو حول سعيه إلى تكثيف الضغوط على الدول الأوروبية لتوزيع الأعباء المالية وتعزيز المصالح الأمريكيةللاستفادة من مشاركتها في الحلف والعمل توجيه موارده في اتجاه جنوب شرق أسيا مع التهديد بدراسة الانسحاب من الحلف، وهو ما أثار الجدل والتوترات داخل التحالف ارتباطًا بالصعوبات التي تواجهها بعض دوله لتوفير نسبة 2 % من دخلها القومي لصالح الدفاع، الأمر الذى سيمثل تحديًا كبيرًا أمام مستقبل حلف الناتو حال عدم قدرة الأعضاء على توفير الزيادة المطلوبة مما قد يزيد من احتمالات الانسحاب الفعلي للولايات المتحدة من الحلف.
الخلاف حول إنهاء الحرب:
تمثل أوكرانيا خط الدفاع الأول لأوروبا ضد التهديدات الروسية (من وجهة النظر الأوروبية)، وقد شهدت الفترة الماضية بعض مظاهر التصعيد بين الدول الأوروبية وروسيا، يتمثل أبرزها في الآتي:
- تصريحات الرئيس الفرنسي بأنه لا يستبعد إرسال قوات إلى أوكرانيا في فبراير 2024، وإجراء مناقشات مع كييف بشأن إرسال مدربين عسكريين فرنسيين إلى أوكرانيا، كما ستقوم باريس بتمويل وتسليح وتدريب لواء أوكراني، مما دفع روسيا إلى الإعلان عن إجراء تدريبات تتضمن أسلحة نووية تكتيكية في 8 مايو 2024، كما هدد مدير المخابرات الروسية فرنسا في حال أقدمت على إرسال وحدة عسكرية إلى أوكرانيا فإن وحداتها ستصبح هدفًا مشروعًا وذا أولوية بالنسبة للقوات الروسية.
- حذرت روسيا حكومة المملكة المتحدة من أن قرارها بالسماح للقوات الأوكرانية باستخدام صواريخ ستورم شادو البريطانية لقصف روسيا قد يؤدى إلى ضربات انتقامية على المنشآت والمعدات العسكرية البريطانية على الأراضي الأوكرانية أو في أي مكان آخر.
ويتحسب الاتحاد الأوروبي من احتمالات قيام روسيا بتنفيذ هجوم على بعض الدول الأعضاء في حلف الناتو بحلول عام 2030 خاصة دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) باعتبار أنها تاريخيًا جزء من الاتحاد السوفيتي، كما أن طموح الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” قد لا يتوقف عند أوكرانيا، فيما حذرت الدنمارك من أن روسيا قد تكون مستعدة لشن “حرب واسعة النطاق” في أوروبا خلال السنوات الخمس المقبلة، وفي الإطار ذاته، نشرت صحيفة “بيلد” الألمانية يوم 26 فبراير 2024 سيناريو نظري لهجوم روسي واسع النطاق على دول حلف “الناتو” يتكون من أربع مراحل (حرب نفسية وهجمات إلكترونية – مناورات كبيرة للقوات الروسية على حدود دول حلف الناتو قد تتضمن شن هجمات على بعض المنشآت – هجوم مباشر على دول حلف الناتو خاصة ألمانيا – اقتحام القوات الروسية للأراضي الألمانية).
وقد جاءت توجهات الرئيس الأمريكي حول الحرب الأوكرانية لتزيد من المخاوف لدى الدول الأوروبية خاصة سعيه لسرعة إنهاء الصراع بين روسيا وأوكرانيا وبشكل لا يتماشى مع المصالح الأوكرانية والأوروبية حيث برز الآتي:
- المخاوف من تحييد الدول الأوروبية وعدم مشاركتهم في المحادثات بين المسئولين الروس والأمريكيين في السعودية يوم 18 فبراير 2025 وسط تقارير تفيد بأن الوفد الروسي طلب خلال المفاوضات الأمريكية الروسية تقسيمًا جديدًا لمناطق النفوذ وانسحاب الولايات المتحدة من أوروبا الشرقية.
- فشل زيارتي الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني للولايات المتحدة ولقاء ترامب في تحقيق تقارب بين أوروبا والرئيس ترامب، وأخيرًا لقاء الرئيس الأوكراني، حيث تم وصفه بالصدمة السياسية للأوساط السياسية العالمية خاصةً الأوروبية وأنه ضربة للدبلوماسية، لا سيما مع تزايد الحديث عن قيام مقربين من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإجراء مناقشات مع عدد من المعارضين السياسيين للرئيس الأوكراني، ركزت على إجراء انتخابات رئاسية بشكل سريع.
- قيام واشنطن بتعليق مشاركة المعلومات الاستخباراتية مع أوكرانيا – قبل أن يتم رفع هذا التعليق واستئناف المساعدات الأمنية لأوكرانيا – الأمر الذي يؤثر بالسلب على فاعلية صواريخ “ستورم شادو” الكروز البريطانية والتي تعد من أهم الأسلحة التي تستخدمها أوكرانيا داخل منطقة كورسك الروسية حيث تتطلب البيانات الأمريكية لضرب أهدافها.
خطوات مضادة:
دفعت توجهات الرئيس الأمريكي وخطواته بشأن حلف الناتو والحرب في أوكرانيا إلى محاولة قيادات الدول الأوروبية لاتخاذ موقف موحد لمواجهة تلك التوجهات من خلال عدة إجراءات من أهمها:
- عقد قمم أوروبية عديدة تركز معظمها حول ضرورة تواجد الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا في المفاوضات حول الحرب، مع مواصلة المساعدات العسكرية لأوكرانيا وزيادة الضغط الاقتصادي على روسيا، وتعزيز قدرات الدفاع الأوروبي بزيادة إنفاق الدول بأكثر من 2% من ناتجها المحلى الإجمالي على الدفاع، ومناقشة مقترح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا.
- الترويج لخطة لتحقيق السلام في أوكرانيا ستشمل هدنة أولية مقترحة تستمر لمدة شهر مع روسيا تغطى البنية التحتية الجوية والبحرية والمرتبطة بالطاقة، وتوفير الولايات المتحدة غطاءً لقوات من “تحالف راغبين” أوروبي تنشر لتأمين وقف إطلاق النار، كما سيتضمن الجزء الرئيس الثاني من الخطة توقيع الرئيس الأوكراني على صفقة مقترحة لتزويد الولايات المتحدة بحصة من عائدات بعض احتياطيات أوكرانيا المعدنية (ما يسمى باتفاقية المعادن)، ما يمنح واشنطن مصلحة اقتصادية في تسوية سلمية.
- الاعتماد على الأساليب الشعبوية، حيث وجه الرئيس الفرنسي خطابًا للشعب الفرنسي يوم 5 مارس 2024 حمل تصعيدًا ضد روسيا والولايات المتحدة، (تمثل روسيا تهديدًا لأوروبا برمتها – الإعلان عن مناقشة دور المظلة النووية الفرنسية في حماية أوروبا – مستقبل أوروبا لا يمكن أن تقرره أمريكا، ونحن مستعدون لكل السيناريوهات مع أمريكا أو بدونها ..).
سيناريوهات مستقبلية:
تفرض سياسات الرئيس الأمريكي، والتوجه الأحادي للتوصل إلى اتفاق للسلام في أوكرانيا تحديات كبيرة على الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، الأمر الذي قد يؤثر على مستقبل العلاقات الأمريكية الأوروبية وعلى مستقبل حلف الناتو وذلك كما يلي:
السيناريو الأول (الأكثر ترجيحًا): ارتباطًا بغياب التأثير والنفوذ الأوروبي على الموقف الأمريكي، فمن المنتظر نجاح الضغوط الأمريكية على الدول الأوروبية في تمرير رؤية ترامب تجاه حلف الناتو وقيام الدول الأعضاء برفع نسب المساهمة تدريجيًا، كذا الموافقة على تحقيق اتفاق سلام لإيقاف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، بحيث يتم تجميد النزاع على طول خط المواجهة وإنشاء منطقة منزوعة السلاح مع عدم الانسحاب من الأراضي التي تم التوغل بها والتفاوض بشأنها سياسيًا، مع إمكانية طرح استفتاءات شعبية بتلك الأقاليم على غرار جزيرة القرم، وتعليق مساعي أوكرانيا للانضمام إلى حلف الناتو، مع احتمالات الدعم الأمريكي لنشر قوات حفظ سلام أوروبية في أوكرانيا، والحصول على ضمانات أمنية من روسيا بعدم التصعيد ضد أوكرانيا أو أي من الدول الأوروبية خاصةً دول البلطيق وألمانيا.
السيناريو الثاني (محتمل): نجاح ضغوط الرئيس الأمريكي نحو إجراء انتخابات مبكرة سريعة في أوكرانيا بالتنسيق مع المعارضة الأوكرانية لتغيير المعادلة في الداخل الأوكراني والحد من تأثير الدول الأوروبية مما يمكنه من تمرير رؤيته للحرب في أوكرانيا، مع اضطرار دول حلف الناتو خاصةً الاتحاد الأوروبي للاستمرار تحت العباءة الأمريكية وزيادة مساهمتها الدفاعية لتوفير الضمانات الأمنية تجاه أي محاولة اعتداء روسية في المستقبل.
السيناريو الثالث (محدود): تصاعد الخلافات الأوروبية الأمريكية بشأن الملف الأوكراني، الأمر الذي قد يدفع الرئيس الأمريكي لإعلان انسحابه بشكل كامل من حلف الناتو، وبما قد يدفع الاتحاد الأوروبي إلى صياغة آلية لزيادة استقلاليتها الدفاعية (سيؤدى إلى ضغوط اقتصادية كبيرة على الدول قد لا تتحملها شعوبها)، مع تعقيد المشهد فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا والتصعيد بالضغوط العسكرية تجاه روسيا لتحقيق الردع اللازم (المظلة النووية الفرنسية).