جمّدت بريطانيا والاتحاد الأوروبي جزئيًا عقوبات مفروضة على سوريا لدعمها اقتصاديًا وسياسيًا، ودعم المصالح الأوروبية في منطقة المشرق العربي التي تتسم بالتنوع والتعدد، ولكن في نفس الوقت تظل هناك إشكاليات قد تعرقل من التحركات الأوروبية تجاه سوريا، وتقلص من حجم مكاسبها المتوقعة من التقارب معها، بما قد يدفع دول الاتحاد الأوروبي لتعزيز تعاونه مع سوريا بشكل أكبر خلال الفترة المقبلة في مواجهة تلك الإشكاليات.
تجميد العقوبات:
ذكر الناطق باسم وزارة الخارجية والتنمية البريطانية في 6 مارس 2025 أن بلاده ستلغي تجميد أرصدة 24 من الكيانات السورية التي كان يستغلها نظام الرئيس السوري السابق “بشار الأسد” لتمويل قمع الشعب السوري، وتشمل هذه الكيانات مصرف سوريا المركزي، والخطوط الجوية السورية، وشركات للطاقة، وذلك بهدف مساعدة الشعب السوري في إعادة بناء بلده واقتصاده، مؤكدًا على أنه سوف تستمر العقوبات المفروضة على نظام الأسد والضالعين في تجارة الكبتاغون.
كما أعلن مجلس الاتحاد الأوروبي في 24 فبراير 2025 تعليقه لحزمة من العقوبات المفروضة على سوريا، كجزء من جهود الاتحاد الأوروبي لدعم الانتقال السياسي الشامل في سوريا، والتعافي الاقتصادي السريع، وإعادة الإعمار، وتثبيت الاستقرار، وأوضح أن الهدف من ذلك تسهيل التعامل مع سوريا وشعبها وشركاتها، في مجالات رئيسية للطاقة والنقل، فضلًا عن تسهيل المعاملات المالية والمصرفية المرتبطة بهذه القطاعات وتلك اللازمة للأغراض الإنسانية وإعادة الإعمار، حيث أوضح مجلس الاتحاد الأوروبي تعليقه للعقوبات على القطاعات والمجالات التالية:
- قطاع الطاقة (بما في ذلك النفط والغاز والكهرباء)، وقطاع النقل.
- رفع 5 كيانات (المصرف الصناعي، ومصرف التسليف الشعبي، ومصرف الادخار، والمصرف الزراعي التعاوني، ومؤسسة الطيران العربية السورية) من قائمة الجهات الخاضعة لتجميد الأموال والموارد الاقتصادية، والسماح بوضع الأموال والموارد الاقتصادية تحت تصرف البنك المركزي السوري.
- تقديم بعض الإعفاءات من حظر إقامة علاقات مصرفية بين البنوك والمؤسسات المالية السورية داخل أراضي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، للسماح بالمعاملات المرتبطة بقطاعي الطاقة والنقل، وكذلك المعاملات اللازمة للأغراض الإنسانية وإعادة الإعمار.
- التمديد لأجل غير مسمى إعفاء تسهيل تسليم المساعدات الإنسانية.
في نفس الوقت، أكد المجلس على استمرار عقوبات دول الاتحاد الأوروبي الأخرى المتعلقة بنظام “بشار الأسد”، منها المفروضة على الأسلحة الكيماوية، وتجارة الأسلحة والمخدرات، والسلع ذات الاستخدام المزدوج في ممارسات عسكرية ومدنية، وبرامج المراقبة، والتجارة الدولية للسلع التراثية الثقافية السورية.
يأتي تجميد العقوبات الأوروبية كخطوة إضافية لدعم سوريا عقب تعليق الولايات المتحدة الأمريكية جزئيًا لعقوباتها على سوريا في الفترة بين يناير 2025 وحتى يوليو 2025، حيث يستهدف الإجراء تيسير المعاملات المصرفية والمالية مع الحكومة السورية لضمان تقديم الخدمات الأساسية، لتوفير الكهرباء والطاقة والمياه والصرف الصحي.
دوافع التحرك:
توفير الدول الأوروبية الغطاء القانوني لقيام شركاتها بالمشاركة في عمليات إعادة إعمار سوريا، بما يعزز تواجدها هناك ويسرع في نفس الوقت من عملية إعادة الإعمار، بهدف منافسة الحضور التركي المتزايد في سوريا، والذي قد يكون له آثار سلبية على الجانب الأوروبي، ويُشار إلى أن الاتحاد الأوروبي قد تعهد في 17 مارس 2025 بتقديم نحو 2.5 مليار يورو خلال عامي 2025 و2026 لسوريا لتسهيل عملية إعادة الإعمار، وبالتالي قد يتم ربط تلك المساعدات بضرورة قيام شركات أوروبية بالعمل في سوريا، وهذا بالطبع في حالة استقرار الأوضاع الأمنية.
وقد يسهم الحضور الأوروبي في تسريع عودة السوريين من أوروبا وتركيا لبلادهم، مع الأخذ في الاعتبار أنه بعد الإطاحة بنظام الأسد، عاد فقط ما يزيد على 100 ألف سوري بشكل نهائي من تركيا (وفق هيئة المنافذ السورية في 10 فبراير 2025)، من نحو 2.9 مليون سوري خاضعين للحماية المؤقتة في تركيا (وفق وزير الداخلية التركي “علي يرلي قايا”)، ليظل ملف اللاجئين السوريين ورقة ضغط تركية ضد الدول الأوروبية، لاسيما مع ضبابية المشهد الأمني والسياسي والاقتصادي في سوريا.
كما تتطلع الدول الأوروبية للاستفادة من حجم السوق السوري البالغ نحو 24.6 مليون نسمة وفق بيانات عام 2024، والتوقعات بارتفاع حجمه نتيجة حركة الهجرة العكسية للداخل السوري، حيث أن تجميد العقوبات يتيح للشركات الأوروبية التصدير لسوريا خاصة مع احتمالية دخول بعض دول أوروبا في حرب تجارية مع الولايات المتحدة، بما يجعل السوق السوري سوقًا بديلًا لبعض السلع الموجهة للسوق الأمريكي.
إن تجميد العقوبات على قطاع النقل السوري يتيح فرص إعادة تأهيل البنية التحتية للقطاع، بما يسهل بدوره التبادل التجاري مع الدول الأوروبية، في ظل حاجة سوريا للعديد من السلع لدعم المتطلبات الأساسية للسكان، ودعم عملية إعادة الإعمار، كما أن تجميد بعض العقوبات يفتح المجال لنقل التجارة بين الدول الأوروبية وسوريا عبر تركيا، ومنها إلى دول الخليج العربية.
قد يكون التحرك الأوروبي تجاه سوريا بهدف استحداث ممر بديل لنقل التجارة للدول العربية، وذلك في ظل الصعوبات التي قد تواجه تفعيل الممر المقترح الهند/ الشرق الأوسط/ أوروبا (IMEC) بسبب الممارسات الإسرائيلية العدائية في المنطقة، وأيضًا بسبب اضطرابات الملاحة في البحر الأحمر، وبالتالي قد يتم الاعتماد على سوريا كممر تجاري رئيسي بين أوروبا والشرق الأوسط في حالة استقرار أوضاعها الأمنية.
كما أن تجميد العقوبات على بعض القطاعات الرئيسية في سوريا يستهدف عودة سوريا للاندماج في التجارة العالمية، بما يتيح لها تصدير بعض السلع لزيادة إيرادات الحكومة السورية بدلًا من الاعتماد بشكل كامل على المساعدات الخارجية، حيث فرض حظر نفطي على سوريا أثناء حكم الأسد، باعتباره من المصادر الرئيسية للإيرادات في سوريا، ليتم فرض عقوبات على صادرات النفط، وشملت هذه العقوبات منع الشركات الدولية من شراء النفط السوري أو الاستثمار في قطاع الطاقة في سوريا، وحظر بيع المعدات اللازمة لاستخراج أو تكرير النفط.
وعلى جانب آخر، فإن التواجد الأوروبي في سوريا قد يحول دون استمرار التواجد الروسي هناك، مع منافسته إذا استمر، حيث تعد سوريا ساحة مهمة للتنافس بين الجانبين، لاسيما أن التواجد الروسي يرتبط بعدة قطاعات محل الاهتمام من قبل أوروبا، على رأسها قطاع الطاقة، وبالتالي لا يستبعد أن تشهد الفترة المقبلة تحركات أوروبية للتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي خاصة في السواحل السورية بعد ترسيم الحدود مع دول الجوار، وذلك بعد تعليق عدة شركات أوروبية عملياتها في سوريا بسبب العقوبات، لتواجه أي تحركات روسية تجاه قطاع الطاقة السوري.
قد يكون للتحرك الأوروبي هدف تعزيز الحضور في منطقة المشرق العربي، والتي تشهد تغيرات مستمرة منذ عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023، في ظل محاولات أمريكية لإعادة الترتيبات بتلك المنطقة، وهو ما تتحسب منه بروكسل لاسيما أن تلك المنطقة تطل على شرق البحر المتوسط التي قد تكون موّرد مهم لإمدادات الغاز الطبيعي لدول القارة الأوروبية.
إشكاليات مستمرة:
إن التجميد الجزئي للعقوبات، سواءً من بروكسل أو واشنطن، يعكس المخاوف من النظام السوري الجديد، والذي قد يستهدف الأقليات وحقوق الإنسان، أو قمع المعارضين، وبالتالي لم تجمد الولايات المتحدة قانون “قيصر”، بل قامت بتمديده في 12 ديسمبر 2024، حتى نهاية عام 2029، لاستخدامه ضد النظام السوري الجديد، وهو الأمر الذي سيكون له تأثيرات سلبية على الاقتصاد السوري الذي لم يدخل بعد مرحلة التعافي من التداعيات الناتجة عن الحرب الأهلية منذ عام 2011.
ويطرح ما سبق إشكاليات تتعلق باستخدام الدول الغربية العقوبات كآداة للضغط على سوريا مستقبلًا، على غرار نموذج العراق، حيث لازالت العقوبات الأمريكية المفروضة على قطاع النفط العراقي منذ انهيار نظام “صدام حسين” في 2003 مُفعلّة، فيتم إجبار مشتري النفط العراقي على وضع ثمنه في الفيدرالي الأمريكي، ثم تحويله للحكومة العراقية.
قد يدفع الممر التجاري أوروبا/ تركيا/ سوريا الذي يُرجح أن يتم العمل على إنشائه، كل من الولايات المتحدة وإسرائيل لتسريع تفعيل ممر IMEC، باعتبار أنهما ينافسان بعضهما البعض، هذا بخلاف وجود ممرات أخرى منافسة، مثل طريق التنمية العراقي، وطريق طهران البحر المتوسط الذي قد يكون انتهى فعليًا بعد انهيار نظام الأسد، ولكن عودة العلاقات الإيرانية/ السورية (مستقبلًا) قد تعيد إحيائه، وبالتالي فإن عودة سوريا للاندماج في الاقتصاد العالمي قد تصعد من المنافسة بين ممرات التجارة في المنطقة، والتي قد تكون سبب في توتر بين البلدان المتنافسة.
ويُؤخذ في الاعتبار أن ممر IMEC يستهدف أن تصبح إيطاليا مركزًا لعبور التجارة من وإلى أوروبا عبر الممر (وفق ما ذكره الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” مؤخرًا)، وهو ما قد يوجد منافسة في الداخل الأوروبي، حيث تسعى اليونان أيضًا لأن تصبح مركزًا رئيسيًا على الممر، وبالتالي فإن تلك المنافسة قد تدفع أثينا لتعزيز تعاونها مع دمشق، لاستحداث ممر جديد يمر عبرهما لربط أوروبا مع دول الخليج العربي، ويتفادى ذلك الممر بدوره تركيا التي تشهد بينها وبين اليونان توترات.
ويُشكل ملف ترسيم الحدود البحرية بين سوريا ودول جوارها معضلة قد تؤدي لإثارة التوترات في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، لاسيما مع تحرك تركي يستهدف ترسيم تلك الحدود، في محاولة لإيجاد واقع جديد أسوة بتوقيعها اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا في نوفمبر 2019، وبالتالي فقد يُطرح ضرورة تسوية هذا الملف خلال الفترة المقبلة في ضوء حاجة سوريا ودول جوارها لاستخراج ثروات النفط والغاز الطبيعي لدعم اقتصاداتها.
في الختام، تواجه سوريا تطورات محلية وإقليمية وعالمية متسارعة يتطلب معها أن يكون لديها اقتصاد قوي يواجه الصدمات، ونظام توزيعي عادل يدعم المواطنين دون تمييز، وإلا ستدخل في حالة من الخلافات والنزاعات التي قد تنتهي لصراع جديد، ركائزه المنافسة على الموارد الاقتصادية المحدودة، وقد يكون تجميد بعض العقوبات الغربية هو البداية لمسار تنموي داعم للاقتصاد السوري لعدم حدوث ذلك الصراع، خاصةً أن الجانب الأوروبي سيكون مستفيدًا من تعزيز علاقته الاقتصادية بسوريا على عدد من المستويات، وبالتالي من المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تقاربًا أوروبيًا/ سوريًا متزايدًا بما يصب في صالح الجانبين.