اتخذ الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” فور وصوله إلى البيت الأبيض عددًا من الإجراءات والسياسات تجاه القارة الإفريقية، لترسيخ توجه “أمريكا أولًا” في السياسة الخارجية الأمريكية، وإن كانت هذه السياسات قد تسهم بصورة أو بأخرى في إعادة تشكيل التواجد الأمريكي في القارة الإفريقية.
إعادة تفكيك الركائز:
اعتمدت السياسة الخارجية الأمريكية في إفريقيا على عددٍ من الركائز، لكن مع التطورات التي يشهدها النظام الدولي بشكل عام والقارة الإفريقية بشكل خاص، تظهر الحاجة إلى إعادة النظر في هذه الركائز، في حالة رغبة الولايات المتحدة في تعزيز تواجدها في إفريقيا أو الدفع نحو استقرار القارة[1]، وتتضمن هذه الركائز ما يلي:
- تقاسم الأعباء والمسئوليات مع الحلفاء بما قد يسهم في تحقيق الأمن الإقليمي، حيث اعتمد التوجه الأمريكي في إفريقيا على افتراض أن مشاركة الحلفاء من شأنه تعزيز التواجد والنفوذ الأمريكي، ومن ثم عملت الولايات المتحدة على دعم الجهود والمبادرات التي يقودها شركاؤها، وقدمت واشنطن الدعم اللوجيستي والاستخباراتي لفرنسا في إطار عملية “جونيبير ماكرون” في مالي، ولكن مع انسحاب فرنسا من مالي واجهت المصالح والمنشآت الأمريكية عددًا من التحديات مرتبطة بعودة الهجمات الإرهابية على العاصمة، كما أسهم التحالف الأمريكي الفرنسي في تقويض النفوذ الأمريكي في القارة، وذلك في ضوء استمرار النظرة الإفريقية لفرنسا على أنها دولة استعمارية، بما يفسر قيام دولة تشاد بطرد القوات الفرنسية من أراضيها.
- تراجع التواجد العسكري المباشر في الأراضي الإفريقية بما يهدد المصالح الأمريكية، حيث حذر مجموعة من المسئولين الأمريكيين من أن الانسحاب الأمريكي من دول الساحل (تشاد – النيجر) من شأنه أن يقوض النفوذ الأمريكي في القارة ويهدد المصالح الأمريكية بصورة مباشرة، حيث اضطلعت القوات الأمريكية بأدوار المراقبة والتحذير النشط من التهديدات المحتملة، إلا أن القوات الأمريكية تغافلت عن الدفع بالتنسيق والتعاون الاستخباراتي مع الدول الإفريقية، وبدون تعاون فعلي وحقيقي مع الدول الإفريقية ستظل المصالح الأمريكية في المنطقة مهددة.
- استمرار الحرب على الإرهاب في القارة الإفريقية، حيث أمر الرئيس ترامب في فبراير الماضي بتوجيه ضربات جوية لبعض عناصر تنظيم داعش في الصومال، وأكد أن هذه الهجمات قد تستمر في المستقبل، وقد تمثل الهدف الأساسي من هذه العمليات في مكافحة التنظيم خاصةً في ظل تبنيه هجوم نيو أورليانز في الولايات المتحدة، إلا أن هذه الضربات تكشف عن استمرار المنطق العسكري الأمريكي في التعامل مع ملف مكافحة الإرهاب، بدون إدارة الأسباب الجذرية التي دفعت إلى صعود الجماعات الإرهابية إلى المشهد الأمني في إفريقيا، مثل الفقر والتراجع الاقتصادي وهشاشة المؤسسات التعليمية، على الرغم من أن استمرار هذا الاقتراب في التعامل مع التحديات الأمنية في القارة سيؤدي إلى تأجيج حالة عدم الاستقرار وسيقوض المصالح الأمريكية في القارة[2].
تحركات بارزة:
في ظل السياق السابق ذكره، تدرس الإدارة الأمريكية فرض حظر سفر على مواطني 43 دولة، استكمالًا لسياسة الحظر التي بدأها الرئيس ترامب خلال ولايته الأولى، ويشمل هذا المشروع تقسيم الدول إلى ثلاث فئات:
- الفئة الأولى (القائمة الحمراء) تضم الدول التي سيُمنع مواطنوها من السفر إلى الولايات المتحدة بشكل كامل، وتشمل ثلاث دول إفريقية: ليبيا، والصومال، والسودان.
- الفئة الثانية (القائمة البرتقالية) تشمل الدول التي سيواجه مواطنوها قيودًا إضافية على السفر بدلًا من الحظر الكامل، وتضم: إريتريا، وسيراليون، وجنوب السودان.
- الفئة الثالثة (القائمة الصفراء) تتضمن 16 دولة إفريقية، حيث سيُمنح مواطنوها 60 يومًا لمعالجة القضايا المطروحة أو قد يُنقلون إلى فئة أخرى، هذه الدول هي: أنجولا، وبنين، وبوركينا فاسو، والكاميرون، والرأس الأخضر، وتشاد، وجمهورية الكونغو، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وغينيا الاستوائية، وجامبيا، وليبيريا، ومالاوي، ومالي، وموريتانيا، وساو تومي وبرينسيب، وزيمبابوي[3].
على الرغم من أن قرار حظر السفر لمواطني العديد من الدول الإفريقية قد يدفع نحو تقويض العلاقات الأمريكية الإفريقية، فضلًا عن أنه قد يُسهم في عرقلة الحضور الأمريكي في العديد من الملفات الرئيسة في القارة مثل جهود مكافحة الإرهاب والصراعات المسلحة، خاصةُ في أعقاب توقف الدور الذي تلعبه الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، فإنه غير موجه نحو الدول الإفريقية بالأساس، ولكنه مدفوع برغبة الإدارة الأمريكية في الحيلولة نحو تدفق المهاجرين من مناطق الصراعات إلى الأراضي الأمريكية.
اتخذت إدارة الرئيس ترامب قرارًا بطرد سفير جنوب إفريقيا في الولايات المتحدة “إبراهيم رسول” واتهامه بالترويج لخطاب عنصري ومعاد للرئيس ترامب، واعتبره وزير الخارجية الأمريكي “ماركو روبيو” على أنه شخص غير مرغوب فيه، كما اتهم الرئيس ترامب الحكومة في جنوب إفريقيا بانتهاك حقوق المزارعين الأفريكانيين من ذوي البشرة البيض عن طريق تشريع قانون تأميم جديد يتيح للحكومة الاستيلاء على أراضي المزارعين، كما دعا الرئيس ترامب إلى إعادة توطين المزارعين البيض في جنوب إفريقيا[4].
ومن غير المستبعد أن تكون القرارات التي اتخذتها الإدارة الأمريكية تجاه دولة جنوب إفريقيا، نتاج للتنديد المستمر الذي تقوم به بريتوريا ضد الانتهاكات الإسرائيلية – المدعومة أمريكيًا – في قطاع غزة، فضلًا عن قيام الحكومة في جنوب إفريقيا بتخصيص 2 مليون دولار لدعم قضية الإبادة الجماعية التي طرحتها في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، عطفًا على ترويج وزير الكفاءة الحكومية “إيلون ماسك” بأن المواطنين البيض في جنوب إفريقيا يتعرضون لقمع واضطهاد، وهو ما وظفته إسرائيل والولايات المتحدة من أجل التشكيك في الأطروحة التي تقدمها جنوب إفريقيا بشأن إسرائيل، من منطلق أنها تمارس استراتيجية مماثلة في التعامل مع مواطنيها البيض.
فيما أجرى وزير الخارجية الأمريكي مباحثات مع الرئيس الكيني “ويليام روتو” بشأن استمرار التصعيد والصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، بما في ذلك الاستيلاء على منطقتي جوما وبوكافو من قبل جماعة M23 المسلحة المدعومة من رواندا، حيث أكد الوزير روبيو على أهمية خفض التصعيد والدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، كما أكد الجانبان على التزامهما بالدفع باتجاه حل دبلوماسي للأزمة.
وتعكس هذه المباحثات رغبة واشنطن في تأمين اتفاق وقف إطلاق النار في الكونغو والدفع نحو استعادة الاستقرار في المنطقة، عقب تغافل الإدارة الأمريكية السابقة عن تطورات الأوضاع فيها، وإحجامها عن الانخراط الواضح للحد من التصعيد، ولكن مع عودة الرئيس ترامب، فقد تدفع الإدارة الأمريكية نحو مزيد من التواجد الفعال في الكونغو لتأمين الوصول إلى المواد الخام الحيوية، وقد أدركت الحكومة في الكونغو هذا الأمر مبكرًا مما دفع برئيس الكونغو “فيليكس تشيسيكيدي” إلى الإعلان عن استعداد بلاده للدخول في شراكة مع الولايات المتحدة في مجال المعادن النادرة مقابل أن تقوم واشنطن بتعزيز قدرات الكونغو الأمنية.
تحديات العلاقات الأمريكية الإفريقية:
- تزايد النفاذ الصيني في شرق إفريقيا، حيث عملت بكين على تعزيز حضورها في منطقة شرق إفريقيا في العديد من الملفات، مثل المرافق اللوجستية حيث أنشأت بكين أول قاعدة عسكرية لها خارج أراضيها عام 2017 في جيبوتي، وكذلك التدريبات العسكرية الصينية مع دول القارة، مثل مبادرة “وحدة السلام 2024” التي أجريت بين كل من الصين وموزمبيق وتنزانيا، واستهدفت تعزيز التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، إضافةً إلى مبيعات الأسلحة، حيث أضحت بكين تلعب دورًا متزايدًا في تصدير الأسلحة إلى الدول الإفريقية، وإنشاء مصانع للأسلحة في العديد من الدول الإفريقية مثل نيجيريا وزيمبابوي.
- استحداث روسيا وسائل جديدة لتعزيز حضورها في إفريقيا، حيث أعلنت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية عن تشكيل بطريركية الإكزركية في إفريقيا تتولى تقديم المساعدات الإنسانية واللقاحات الصحية للمسيحيين في إفريقيا، وذلك بهدف حضورها في القارة بأكملها، وعلى الرغم من أن التواجد الروسي “الديني” في القارة يتم بطريقة هادئة غير مباشرة، فإنه يؤكد على مساعي الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لاختراق القارة بشتى الوسائل الممكنة[5].
- عدم الاستقرار الحزبي بشأن الشراكة الاقتصادية مع إفريقيا، حيث عجزت جماعات الضغط الإفريقية في الكونجرس عن الدفع بتضمين قانون النمو والفرص الإفريقي – المعني بتعزيز الشراكة التجارية بين الولايات المتحدة والدول الإفريقية – في مشروع قانون تمويل الطوارئ، وذلك كنتيجة لحالة الاستقطاب بين الجمهوريين والديموقراطيين في الكونجرس، حيث رفض الديموقراطيون تجديد الموافقة على القانون بحجة عدم اشتماله على معايير واضحة بشأن حقوق العمال وسلامة البيئة، في المقابل اكتفى الجمهوريون بالأولويات التجارية الأخرى التي دفع بها الديموقراطيون مثل المشاريع التجارية مع دول أخرى، ومن شأن هذا القرار تقويض الاستثمارات الأمريكية مع انسحاب المستثمرين من القارة نتيجة حالة عدم اليقين الاقتصادية[6].
وختامًا، يتضح وجود عدد من المحددات الحاكمة لمستقبل التواجد الأمريكي في القارة الإفريقية، يأتي في مقدمتها مراجعة الركائز التقليدية للسياسة الخارجية الأمريكية، وطرح سياسات بديلة تراعي التطورات العالمية والاحتياجات الفعلية للقارة، فضلًا عن الدفع بسلسلة من الصفقات والتفاهمات مع القوى الأجنبية التي تمتلك نفوذًا في إفريقيا، عبر تقاسم هذا النفوذ أو التعاون المشترك، وذلك لضمان عودة واشنطن لإفريقيا.
[1] Jordanna Yochai, “To improve its Sahel policy, the US must update four assumptions”, Atlantic council. 17 March 2025. Available at: https://www.atlanticcouncil.org/blogs/africasource/to-improve-its-sahel-policy-the-us-must-update-four-assumptions/
[2] Aude Darnal and Christopher Preble, “Conventional wisdom: The War on Terror is over”, Stimson Center. 14 February 2025. Available at: https://www.stimson.org/2025/testing-assumptions-about-us-foreign-policy-in-2025/
[3] Sheriff Bojang Jnr and Erin Conroy, “Trump’s travel ban: The 22 African countries on the list”, the Africa Report. 17 March 2025. Available at https://www.theafricareport.com/379171/trumps-travel-ban-the-22-african-countries-on-the-list/
[4] Gerald imray, “Why Trump is singling out South Africa and accusing it of being anti-white and anti-American”, the Associated Press. 15 March 2025. Available at https://apnews.com/article/trump-south-africa-rubio-ambassador-musk-pollak-f8bad19709f437e4076fbb56ef94b9df
[5] Charles A. Ray, “Russia’s Influence in Africa: The Role of the Russian Orthodox Church”, FPRI. 15 October 2024. Available at: https://www.fpri.org/article/2024/10/africa-russian-orthodox-church/
[6] Julian Pecque, “US Congress blows last chance to renew Africa trade scheme this year”, the Africa Report, 19 December 2024. Available at: https://www.theafricareport.com/371867/us-congress-blows-last-chance-to-renew-africa-trade-scheme-this-year/