تشهد المحادثات بين الولايات المتحدة وإيران بشأن البرنامج النووي الإيراني تطورات متسارعة تعكس تعقيدات المشهد الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط والعالم، فمنذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي عام 2018، دخل هذا الملف مرحلة من التوترات المتصاعدة، تخللتها محاولات متعددة لإحياء الاتفاق، لكن دون تحقيق تقدم ملموس حتى الآن، وفي ظل المخاوف المتزايدة من تقدم إيران في معدلات تخصيب اليورانيوم، وبلوغها مستويات قريبة من تلك اللازمة لصنع سلاح نووي، عادت الجهود الدبلوماسية إلى الواجهة مجددًا، خاصةً بعد جولات فنية عقدت مؤخرًا في سلطنة عُمان بين الوفدين الأمريكي والإيراني.
تكتسب هذه التطورات أهمية كبيرة في ظل رغبة المجتمع الدولي في تجنب سباق تسلح جديد في الشرق الأوسط، وسط تساؤلات جوهرية حول فرص نجاح هذه المفاوضات، وأبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية على المدى القريب والبعيد، لذلك، حاولت بعض التحليلات والتقارير البحثية تقديم أطروحات ورؤى مختلفة حول هذه المسألة، حيث أصدر موقع مودرن دبلوماسي تقريرًا بعنوان “فك شيفرة الحوار العُماني: إيران والولايات المتحدة في شرق أوسط متعدد الأقطاب”[1]، كما أصدر المجلس الأطلنطي تقريرًا بعنوان “لماذا ستُعارض إسرائيل أي اتفاق نووي بين الولايات المتحدة وإيران”[2] بينما أصدر معهد الشرق الأوسط تقريرًا بعنوان “التفكير فيما لا يُعقل: هل تتحسن العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران في عهد ترامب؟”[3].
تضمنت التقارير سالفة الذكر عددًا من المسائل المرتبطة بتطورات المباحثات الأمريكية الإيرانية بشأن البرنامج النووي الإيراني، وذلك على النحو التالي:
الأطر الحاكمة للتحركات الأمريكية:
الموازنة بين استراتيجية الاحتواء وإدارة الأزمات: لفهم السلوك الأمريكي في المفاوضات مع إيران، يجب الوقوف على طبيعة رؤية إدارة الرئيس ترامب للعلاقة القائمة بين استراتيجية الاحتواء وإدارة الأزمات، حيث تسعى واشنطن إلى تجنب التورط العسكري المباشر مع طهران في ضوء استراتيجيتها لإعادة توجيه مواردها إلى منطقة شرق أسيا، وقد سعت إدارة الرئيس الأمريكي السابق “جو بايدن” عقب الانسحاب من أفغانستان والتقليص التدريجي لحضورها في الشرق الأوسط، إلى إقامة نظام أكثر كفاءة من حيث التكلفة، ولذلك كان الهدف الأساسي في محادثات عمان عامي 2020 و2021، تأمين الوقت واستقرار الوضع بما لا يؤدي إلى مواجهة مباشرة، أكثر من التوصل إلى اتفاق نهائي.
الواقعية الدفاعية: حيث اتبعت الولايات المتحدة في عهد إدارة بايدن شكلًا من “موازنة القوة عن بُعد” (Offshore Balancing)، أي تقليص تكاليف التدخل المباشر وتحميل الحلفاء مسئولية الأمن الإقليمي، وضمن هذا الإطار، كان منع إيران من تجاوز العتبة النووية دون خوض حرب أو تقديم تنازلات استراتيجية كبيرة هو الأولوية الأساسية للولايات المتحدة.
الرؤية الأمريكية لتطورات بنية النظام الإقليمي في الشرق الأوسط: أُعيد تشكيلها بفعل الانسحاب الأمريكي التدريجي، وصعود السعودية وتركيا في المعادلة الإقليمية وتورط الولايات المتحدة في الصراع مع الحوثيين في البحر الأحمر، فضلًا عن التنافس الإسرائيلي الإيراني ومحاولات الدفع باتفاقيات أبراهام.
من ثم يتضح أن المقاربة الأمريكية تجاه إيران أصبحت قائمة على إعادة تعريف “الردع” و”الانخراط”، فبعد عقود من الوجود العسكري الثقيل في الشرق الأوسط، تتجه واشنطن نحو تقليص الانخراط المباشر وتفعيل نمط من الردع غير الصدامي عبر تحالفات إقليمية وأدوات ضغط اقتصادية، هذا التحول لا يعكس فقط أولوية التنافس مع الصين وروسيا، ولكن أيضًا قناعة استراتيجية متزايدة بأن إيران لا يمكن إسقاطها أو تغيير سلوكها بالقوة وحدها، بل بإدارة الأزمة بصورة طويلة الأمد، بما يحفظ المصالح الأمريكية دون استنزاف مفتوح.
محددات نجاح المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران:
تحول النظرة الذاتية الإيرانية: تكشف التطورات التي يشهدها النظام الدولي عن تحول إيران من لاعب إقليمي مبادر إلى دولة مكشوفة تبحث عن إعادة تموضع، ويتضح هذا من توجهاتها المتسارعة إلى التقارب مع السعودية، وفتح قنوات اتصال مع الإمارات وقطر، وتبني خطاب أقل تصعيدًا، من خلال التحول في الأولويات الإيرانية – من دعم الحلفاء إلى تأمين الجغرافيا الوطنية (العراق كمثال) – وبما يعكس شعورًا بتراجع العمق الاستراتيجي وضرورة تقليص الجبهات المفتوحة.
التحولات الإقليمية: لم تعد إيران قادرة على الاعتماد على شبكة ميليشياتها وتحالفاتها الإقليمية لردع الولايات المتحدة وإسرائيل وذلك في ضوء تدهور وضع الجماعات المسلحة في المنطقة التي تعد أساس ما يعرف بمحور المقاومة، إلا أن هذه الجماعات أصبحت تشكل عبئًا على طهران، وبالتالي فإن فشل المفاوضات قد يؤدي إلى هجمات إسرائيلية مدعومة أمريكيًا على المنشآت العسكرية والنووية الإيرانية.
إعادة هيكلة السياسة الخارجية الإيرانية: تعد المفاوضات الإيرانية مع الولايات المتحدة جزءًا من تحول أشمل في السياسة الخارجية الإيرانية، حيث يتضح سعي إيران لتحقيق تفوق دبلوماسي تستعيض به عن تراجع قدرات الردع التي تمتلكها، خاصةً في ظل نجاحها في التوصل إلى صفقة دبلوماسية مع السعودية.
التهديد بعودة آلية العقوبات تلقائيًا: أدت بعض الظروف إلى تشجيع التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وإيران، على الأخص التهديد بعودة العقوبات الأممية تلقائيًا (snapback) بموجب اتفاق 2015، والمقرر انتهاء صلاحيته في أكتوبر، بما يعطي إيران حافزًا إضافيًا للتفاوض بجدية وسرعة.
الانقسامات داخل النخبة الإيرانية: دعا بعض المسئولين والخبراء الإيرانيين البارزين إلى توسيع نطاق الحوار ليشمل قضايا تتجاوز الملف النووي، بما في ذلك الأمن الإقليمي، والصواريخ الباليستية، وحقوق الإنسان، اعتمادًا على أن مصلحة إيران الوطنية يجب أن تتقدم على المشروعات الأيديولوجية المفتوحة، مثل دعم الجماعات المسلحة، كما يدفع هذا الاتجاه نحو مراجعة شاملة للسياسة الخارجية، خاصةً مع تراجع أهمية ملفات مثل سوريا ولبنان واليمن في حسابات طهران الاستراتيجية، في المقابل تعارض التيارات المتشددة داخل النظام الإيراني، وخصوصًا الحرس الثوري توسيع دائرة التفاوض، ومع ذلك، ونتيجة للضغوط الداخلية والتطورات الإقليمية، فقد دعا بعض قادة الحرس الثوري إلى خفض التصعيد في المنطقة بعد تراجع ما يُعرف بمحور المقاومة.
السيناريوهات المحتملة:
السيناريو الأول: الوصول إلى اتفاق مؤقت، ويشمل هذا السيناريو الوصول إلى اتفاق مماثل لخطة العمل المشتركة، حيث يتفق الأطراف على تعليق محدود للأنشطة النووية مقابل الإفراج عن جزء من الأصول الإيرانية المجمدة أو تخفيف بعض العقوبات المحددة، ومن شأن هذا المقترح أن يؤدي إلى تخفيف حدة التوترات القائمة بين الجانبين، إلا أنه لن يؤدي إلى حل الخلافات بينهما.
السيناريو الثاني: استمرار الوضع الراهن، وهو ما يعني استمرار المفاوضات بين الجانبين، لكن دون إحراز أي تقدم ملموس، مع استمرار الوضع القائم على طاولة الحوار، بحيث يتم احتواء التوترات، ولكن مع استمرار منظومة العقوبات الأمريكية على البنية التحتية الإيرانية، واستمرار الأنشطة النووية الإيرانية.
السيناريو الثالث: فشل الأطراف في التوصل إلى تسوية سياسية وقيام إيران بتعزيز قدراتها النووية، ومن ثم تدرك الولايات المتحدة أن إيران تتبع شكلًا من أشكال المناورة من خلال التأكد من أن المفاوضات بين الجانبين لن تؤدي إلى إضعاف التكنولوجيا النووية المحلية أو إلى تقديم تنازل استراتيجي للولايات المتحدة، وبالتالي قد تتجه الولايات المتحدة بالتنسيق مع إسرائيل لشن حملة عسكرية ضد إيران وتسويقها على أنها لتعزيز الأمن الإقليمي.
على الرغم من أن السيناريوهات المطروحة لا تختلف من حيث الشكل على الأقل، فإنها تكشف عن عمق الأزمة البنيوية في العلاقة بين الطرفين الأمريكي والإيراني، حيث يعد الاتفاق المؤقت خيارًا واقعيًا في ظل غياب الثقة والرغبة في احتواء التصعيد، لكنه لا يعالج القضايا الجوهرية مثل الهيمنة الإقليمية أو التكنولوجيا النووية بعيدة المدى، كما أن استمرار الوضع الراهن يبدو مريحًا ظاهريًا لكنه يؤسس لصراع غير معلن قد ينفجر لاحقًا، فيما يُعد الفشل الكامل مقدمة لسيناريو كارثي يبدأ بإعادة فرض العقوبات وقد ينتهي بضربات عسكرية محدودة أو شاملة.
وتعتمد هذه السيناريوهات على رؤية لطبيعة التحول الاستراتيجي للولايات المتحدة وإيران، فكلاهما يتحركان في إطار قيود استراتيجية معقدة، فواشنطن لا تستطيع الانسحاب الكامل ولا خوض حرب جديدة، وطهران لا تملك القوة الكافية للردع ولا القدرة على التنازل الكامل، في هذا السياق، يُصبح التفاوض بمثابة “تأجيل الانفجار” أكثر من كونه وسيلة للوصول لحلٍ فعلي، إلا أن التحولات التي طرأت على بنية النظام الإقليمي، وصعود القوى الوسطى مثل السعودية، وضغوط الداخل الإيراني، قد تفتح نافذة نادرة نحو تحول نوعي، بشرط أن تنجح النخب البراغماتية في طهران في فرض رؤيتها على البنية العقائدية للنظام، وهو ما يبقى مرهونًا بالتغير في رأس السلطة داخل إيران، أو بتوازن جديد داخل النخبة الحاكمة.
وختامًا، يمكن الإشارة إلى أن الطرفين يواجهان بيئة تفاوضية شديدة التعقيد، تتطلب توازنًا دقيقًا بين متطلبات الداخل ومخاطر الخارج، حيث لم تعد إيران تملك ترف الوقت ولا ورقة الردع كما في السابق، فيما تدرك واشنطن أن تكلفة المواجهة العسكرية في ظل إعادة تموضعها العالمي ستكون باهظة.
[1] Bahram P.kalviri, “Decoding the Oman Dialogue: Iran and the US in a Multipolar Middle East”, Modern Diplomacy. 29/4/2025. Available at: https://moderndiplomacy.eu/2025/04/29/decoding-the-oman-dialogue-iran-and-the-us-in-a-multipolar-middle-east/
[2] Danny Citrinowicz, “Why Israel will resist any US-Iran nuclear deal”, the Atlantic council. 28/4/2025. Available at: https://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/why-israel-will-resist-any-us-iran-nuclear-deal/
[3] Ross Harrison and Alex Vatanka, “Thinking the unthinkable: Improved US-Iran relations under Trump?”, Middle East institute. 18/4/2025. Available at: https://mei.edu/publications/thinking-unthinkable-improved-us-iran-relations-under-trump