أطلق تحالف دول الساحل (مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر) بمشاركة قوات من كل من توجو وتشاد، مناورات عسكرية حملت اسم “تارها-ناكال 2″، وذلك تزامنًا مع تصاعد العمليات الإرهابية التي تشنها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم داعش في الساحل الإفريقي، وهو الأمر الذي أثار العديد من المخاوف الأمنية والعسكرية، إضافةً إلى التحولات التي شهدتها النظم السياسية في هذه المنطقة والتغيرات الجذرية في مجمل علاقاتها الخارجية، وتحول دفتها بعيدًا عن القوى التقليدية التي كانت تمتلك نفوذًا مؤثرًا لعقود طويلة.
ويفرض هذا التنافس الدولي في منطقة الساحل الإفريقي الغني بالموارد الطبيعية واقعًا جديدًا في كيفية التعاطي مع ملف التحديات الأمنية ومكافحة الإرهاب التي تثقل كاهل دول الساحل، كما تنعكس على رؤى ومواقف القوى الدولية المختلفة حيال الأزمات التي تضرب هذه المنطقة، وهو ما سيؤثر بالضرورة على الترتيبات الأمنية خلال الفترة المقبلة، بما يرتد على نشاط الحركات الإرهابية من ناحية، ومآلات استقرار واستمرار النظم السياسية من ناحية أخرى.
سياق معقد:
منذ مطلع العام الجاري، كثفت الحركات الإرهابية عملياتها المسلحة على عدد من المناطق الحيوية في الدول الثلاث، مستهدفة معسكرات للجيوش الوطنية واستولت على بعض المعدات العسكرية، فضلًا عن تدمير واستهداف مقرات بعض الشركات الأجنبية[1]، وتتركز العمليات الإرهابية في عدد من المدن في الدول الثلاث، وتمثل مناطق التماس الواقعة ضمن المثلث الحدودي بينهما واحدة من أهم بنك الأهداف، والتي تضم مدن مثل دوري في شمال بوركينا فاسو، وتيلابيري في جنوب غرب النيجر، ومدينة جاو في وسط مالي، كما تشهد بعض المدن الأخرى عددًا من العمليات الإرهابية، مثل فادا نجورما في بوركينا فاسو، ومنطقة موبتي وسيفاري بوسط مالي، ومدينة كيدال وتمبكتو في شمال مالي، فضلًا عن مدينة ديفا في جنوب شرق النيجر.
تزيد أنماط وتكتيكات العمليات التي تنتهجها الجماعات الإرهابية في المنطقة، من صعوبة جهود مكافحة الإرهاب فيها؛ حيث ترتكز تلك الجماعات على نمط حروب العصابات، والمعتمدة على نصب الكمائن والكر والفر، واستهداف الطرق والبنى التحتية، وزرع العبوات الناسفة، فضلًا عن التسلل بملابس مدنية بما يصعب من القدرة على تمييزهم، ويمكنهم من مباغتة القوات النظامية، وهو الأمر الذي يمثل تحديًا كبيرًا للجيوش النظامية في الدول الثلاث التي تفتقر لخبرات التعامل مع مثل هذه الأنماط القتالية، بما يفتح الباب أمام الاستعانة ببعض القوى الخارجية سواء بقوات نظامية أو شبه نظامية، وتشكل احتمالية توصل مثل هذه التنظيمات لتصنيع بعض الأسلحة مثل الطائرات المسيرة، واحدة من المخاوف التي تواجه الدول الثلاث، لا سيما مع ضعف نظم الدفاع الجوي للتعامل مع الطائرات المسيرة، خاصة التي تتخذ مسارات منخفضة بما يصعب كشفها من خلال الرادارات.
وفي السياق ذاته؛ يُشكل تطور أدوات وأسلحة الحركات المسلحة والإرهابية أحد أبرز الهواجس التي تواجه دول الساحل، يُضاف إلى تطور التعاون بين التنظيمات الإرهابية وجبهة تحرير أزواد (في مالي)، وذلك عبر نقل تكنولوجيا تصنيع الطائرات المسيرة للتنظيمات الإرهابية، بما يمكنها من إحداث نقلة نوعية في مستوى التسليح، نظرًا لامتلاك جبهة تحرير أزواد للطيران المسير، أو حتى توحيد أو تنسيق هجماتهم على المواقع العسكرية بالدول الثلاث، وهو ما ظهر مؤخرًا في استهداف جبهة تحرير أزواد للجيش المالي في منطقة سومبي بوسط مالي وذلك باستخدام الطيران المسير.
تحركات دولية:
أدى خروج بعض الفاعلين الدوليين المنخرطين في مكافحة الإرهاب مثل (الأمم المتحدة، وفرنسا، والولايات المتحدة، وألمانيا) من منطقة الساحل، إلى حالة من الفراغ الأمني التي استغلتها بعض القوى المناوئة للغرب لا سيما روسيا والصين للتغلغل في المنطقة، وهو ما جعل منها وحدة من أبرز ساحات التنافس، في وقت يشهد فيه العالم احتدام الأزمات الجيوسياسية، وهو ما دفع دول الساحل لاستغلال هذا السياق والتعويل عليه لبناء تحالفات وعلاقات تعزز من دعائم شرعيتها وتساعدها على تجاوز التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية، وهو ما تجسد في تطور العلاقات الروسية مع دول الساحل، حيث تلعب روسيا دورًا بالغ الأهمية في الملف الأمني بمنطقة الساحل عبر فيلق أفريقيا، كما برز الدور الصيني في الجوانب الاقتصادية بشكل ملموس لاسيما في مجال التعدين[2].
في هذا السياق، تتبنى دول الساحل مواقف أكثر انفتاحًا على عدد من الفواعل الدولية الأخرى مثل تركيا التي تمكنت من توظيف هذا الفراغ لإيجاد موطئ قدم لها في المنطقة، وهو ما تمثل في توقيعها لعدد من الاتفاقات ومذكرات التفاهم الأمنية والعسكرية وكذلك السياسية، لا سيما مع بوركينا فاسو فيما يتعلق بإنشاء آلية للتشاور السياسي، بما يعزز الحضور التركي بالمنطقة، خاصةً أنها منطقة تماس مع ليبيا من الجنوب، بما يسهم في تعزيز التواجد والحضور التركي في ليبيا، ومن ناحية أخرى، يُمثل تقارب بوركينا فاسو مع قوى مثل أفغانستان[3] وحتى كوريا الشمالية[4] نهجًا جديدًا، يُبرز مدى رغبة دول الساحل في الابتعاد أكثر عن القوى التقليدية مثل الولايات المتحدة وفرنسا.
مسارات محتملة:
ثمة مجموعة من المسارات المحتملة التي قد تحدد مستقبل الوضع الأمني في دول الساحل، على النحو التالي:
استمرار التنافس الدولي على منطقة الساحل:
يُرجح استمرار تعاون الدول الثلاث مع روسيا والصين، في المقابل، ستسعى بعض الأطراف الدولية (الولايات المتحدة، وفرنسا) وأطراف أخرى لاستغلال حالة الفوضى الأمنية من أجل عودة نشاطها مرة أخرى في المنطقة، لا سيما مع إعادة الولايات المتحدة تقييم المخاطر الإرهابية في الساحل، وهو الأمر الذي ظهر جليًا في تصريح قائد القوات الأمريكية في أفريقيا “أفريكوم” الجنرال “مايكل لانجلي”، بأن منطقة الساحل أصبحت بؤرة للإرهاب في العالم، كما أنه من الأهداف الأساسية لهجمات الجماعات المسلحة في المنطقة الوصول إلى الساحل الغربي لأفريقيا وتصدير الإرهاب إلى شواطئ الولايات المتحدة، في الوقت ذاته، قد تتجه بعض الأطراف لتزويد الجماعات المسلحة والإرهابية ببعض التقنيات العسكرية لاستنزاف قدرات فيلق إفريقيا الروسي في المنطقة في إطار استراتيجية الجبهات المفتوحة ضد روسيا.
الدعم الخارجي لأي تغيرات سياسية محتملة:
قد تتجه بعض الأطراف لدعم أي تحركات سياسية أو عسكرية لتغيير نظم الحكم في المنطقة، وإيجاد نظم بديلة يمكن بناء علاقات قوية معها، واستعادة نفوذها المفقود، ويعول هذا السيناريو على عدم تكريس استقرار النظم السياسية التي تحكم الدول الثلاث، ومع ذلك فإن هذا الاحتمال سيصطدم بالرغبة الشعبية في الدول الثلاث والتي تعارض تواجد القوى الاستعمارية والغربية، وبشكل عام قد يُنظر إلى منطقة الساحل كبؤرة صراع دولي وإقليمي غير مباشرة، وهو الأمر الذي قد يعتمد على سياسة دول منطقة الساحل الخارجية، وقدرتها على نسج وتشكيل تحالفات مستقرة، وقدرتها في الحفاظ على بقاء نظمها السياسية.
اللجوء لمسار تفاوضي:
في ظل التطورات الدولية والإقليمية الساعية إلى تسكين الأزمات، وتقليل المخاطر الأمنية والعسكرية، وفي ظل التحولات إزاء سياسات مكافحة الإرهاب والتي تتجه نحو تفضيل الحل التفاوضي (الناجح نسبيًا) على حساب الحل العسكري غير الحاسم (المعقد والمتسبب أحيانًا في تفاقم الصراع) كاستراتيجية بديلة لمكافحة الإرهاب، لذا، يُرجح أن تلجأ حكومات منطقة الساحل إلى فتح محادثات مع التنظيمات المسلحة والإرهابية بهدف التوصل إلى تفاهمات معينة تضمن تخفيض حدة الصراع لا سيما مع صعوبة حسم المعركة لصالح الحكومة، وهو الأمر الذي سبق وأن حاولت بعض دول المنطقة تحقيقه[5]، وقد يكون ذلك برعاية دولية وإقليمية، ولكن قد يصطدم بتلاعب وتدخل بعض الأطراف الأخرى لإفشال أي جهود من شأنها تحقيق الاستقرار في المنطقة، بالإضافة إلى هشاشة تلك الاتفاقيات خاصةً في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
نجاح الحكومة في القضاء على الإرهاب:
يتوقف هذا المسار على قدرة حكومات دول المنطقة على تحقيق نصر واضح والتمكن من الحسم العسكري، وتقديم تنازلات سياسية وأمنية وهو الأمر الذي قد يعتمد على تقديم الدعم الخارجي اللازم للحكومات، حيث يمثل تعزيز تواجد فيلق أفريقيا التابع لروسيا في منطقة الساحل وخبراتهم العملياتية في حروب العصابات والمدن عاملًا قويًا، قد يضاف إليه تواجد أي قوات أخرى، وهو ما يشكل أحد العوامل المساعدة للجيوش في الدول الثلاث للحسم العسكري والقضاء على التنظيمات الإرهابية والحركات الانفصالية مثل جبهة تحرير أزواد في مالي.
وختامًا، تظل منطقة الساحل الأفريقي بؤرة الصراع الرئيسة على المدى المنظور، وهو الأمر الذي يتطلب تضافر الجهود الإقليمية والدولية لخفض التصعيد بعيدًا عن التجاذبات السياسية والاقتصادية، بما يؤثر على تحقيق الأمن والسلم الدوليين، حيث أن استمرار التصعيد في المنطقة من شأنه تصدير العديد من الأزمات الأخرى مثل تفاقم أزمة اللجوء وانتشار الجريمة المنظمة العابرة للحدود وسيولة تهريب الأسلحة وتمويل الإرهاب وتصدير العنف إلى دول الجوار، وهو الأمر الذي بات واضحًا من تنامي بعض العمليات الإرهابية في بنين وتوجو وتشاد.
[1] وهو ما عكسه الهجوم على معسكر ديورا بمنطقة موبيتي بوسط مالي في 27 مايو، ونجم عنه 40 قتيل من الجيش المالي بالإضافة للاستيلاء على عددٍ من الأسلحة والمركبات من القاعدة.
[2] “بوركينافاسو تمنح ترخيصًا لشركة روسية لتعدين الذهب”، قراءات إفريقية. 28 أبريل 2025. متاح على https://qiraatafrican.com/28713/
[3] “«طالبان» وبوركينا فاسو تتعهدان بتعاون جديد في مجالَي التجارة والتعدين”، الشرق الأوسط. 15 مايو 2025. متاح على https://tinyurl.com/8mxfzua8
[4] كشفت صحيفة تشوسون إلبو الكورية الجنوبية مايو الماضي عن إرسال كوريا الشمالية حوالي 1960 مقاتل من وحدات النخبة إلى بوركينا فاسو، لضمان سلامة الرئيس “إبراهيم تراوري” واستقرار نظامه. للمزيد، انظر: “عاجل.. كوريا الشمالية ترسل 1960مقاتلا من النخبة إلى بوركينافاسو لحماية نظام “تراوري”، روز اليوسف. 12 مايو 2025. متاح على https://tinyurl.com/3tts6phu
[5] يُبنى هذا السيناريو على افتراض توصل الجيش المالي لتفاهمات مع جبهة تحرير أزواد، بهدف تهدئة الأوضاع الأمنية في الدول الثلاث، ويعتمد على سابقة التوصل لاتفاقين سابقين بين الحكومة في مالي وجبهة تحريري أزواد، وهما اتفاق واجادوجو عام 2013، واتفاق الجزائر لعام 2015.