تتحرك الصين كلاعب جديد وقوي في معادلة الأمن والاستقرار داخل القارة الأفريقية، من خلال دبلوماسيتها العسكرية والأمنية التي تعكس أولوياتها الاستراتيجية، ومدى مواكبتها لتراجع النفوذ الغربي وتنامي نفوذ الجماعات الإرهابية في غرب أفريقيا على وجه الخصوص، وتتنوع الأنشطة العسكرية الصينية ما بين زيارات مباشرة لكبار القادة والمباحثات الثنائية، والمناورات العسكرية المشتركة، وزيارات الموانئ، والخدمات الأمنية، وإنشاء القواعد العسكرية في الخارج وتحقيق بعض معايير الردع التي تجعل من الصين تقترب من الساحل الشرقي للولايات المتحدة.
ويحظى الحضور العسكري للصين في أفريقيا بمتابعة مستمرة من قبل مؤسسات الفكر الغربية، من أجل تحديد المخاطر المرتبطة بالتحركات الاستراتيجية الصينية التي سيكون لها تداعيات طويلة الأمد على المصالح الأمريكية، ففي الوقت الذي أقر فيه قائد قوات الأفريكوم السابق “مايكل لانجلي” أن لدى الصين (وروسيا) خطط طويلة المدى لأفريقيا، لكنه رأى أن الخطر الأكبر يتمثل في الدور الروسي المتسارع من أجل السيطرة على أفريقيا الوسطى والساحل والصحراء، وسبق أن حذر الفريق “داجفين أندرسون”، القائد الجديد للأفريكوم وكذلك “ستيفن تاونسند” القائد الأسبق لأفريكوم من انعكاسات تخطيط الصين لبناء قاعدة عسكرية ثانية في أفريقيا تكون على طول الساحل الغربي للقارة، بما يمكنها من استضافة غواصات أو حاملات طائرات وإعادة تسليح وإصلاح السفن الحربية، بعدما وفرت القاعدة الأولى في جيبوتي حضورًا صينيًا مهمًا في شرق أفريقيا.
أهداف منضبطة:
يستهدف الحضور العسكري الصيني في القارة الأفريقية عامةً الحفاظ على الروابط الثنائية مع دول القارة، وإظهار أن الصين قوة عسكرية متنامية يمكنها تأمين وصول أكبر إلى المسارح الخارجية، لحماية مصالحها وقدراتها التشغيلية في الخارج، بما يُسهم في تحقيق “النهضة الكبرى للأمة الصينية بحلول عام ٢٠٤٩”، في ضوء تأثيرات الاقتصاد السياسي المحلي على سياسة الصين الاقتصادية الخارجية، ومجموعة أخرى من المتغيرات العالمية، حيث تمكنت بكين من تثبيت أسس شراكاتها الاقتصادية والاستثمارية داخل القارة وفق “سياسة الخروج للعالمية” لعام 2000، بعد عقود كانت فيها الصين بلدًا متلقيًا أساسيًا للاستثمار الأجنبي المباشر.
مسارات التحرك العسكري:
تعددت زيارات كبار القادة العسكريين الصينيين إلى أفريقيا خلال العقدين الماضيين، وفق ما أوردته قاعدة بيانات الدبلوماسية العسكرية الصينية في جامعة الدفاع الوطني الأمريكية، وكان من اللافت أنها لم تتضمن زيارات لنواب رئيس اللجنة العسكرية المركزية الصينية (جهاز القيادة العسكرية للدولة يتكون من رئيس الدولة وآخرين وتتبع الحزب الشيوعي الحاكم) إلى الدول الإقليمية شمال وغرب القارة كالجزائر ونيجيريا، برغم أهميتهما ضمن أطر التعاون الاقتصادي والعسكري الاستراتيجي للصين، حيث اقتصرت هذه النوعية من التحركات في نطاق محدد شرق وجنوب أفريقيا.

Source: Matt Kuhlman, Raina Nelson, and Phillip C. Saunders, “China’s Military Diplomacy in Africa”, Strategic Insights, Institute for National Strategic Studies. 20 August 2025. Available at https://inss.ndu.edu/news/Article/4280244/chinas-military-diplomacy-in-africa/
كما اهتمت الصين على مدار سنوات بتنظيم تدريبات عسكرية (ثنائية ومتعددة الأطراف مع روسيا وفرنسا) مع دول أفريقية، مثل نيجيريا والكاميرون والجابون وغانا وجنوب أفريقيا وتنزانيا وموزمبيق ومصر لتعزيز قدرات بكين الاستكشافية الجيواستراتيجية، علاوةً على الاهتمام بتعزيز عمليات بيع العتاد العسكري إلى الدول الأفريقية لاسيما مع جهودها في تطوير بعض الأنواع من الأسلحة بما يتناسب مع التضاريس المعقدة لمناطق الأزمات المحتملة في أفريقيا وغيرها، ويصل حجم واردات أفريقيا من السلاح الصيني نحو1157 مليون TIV، وهو ما نسبته 18.2% من إجمالي واردات أفريقيا من الموردين العالميين للأسلحة خلال الفترة 2020 – 2025.
الخدمات الأمنية الصينية المتخصصة:
تمثل خدمات الأمن والحراسة واحدة من الأنشطة الجديدة للحضور الصيني المتنامي داخل القارة، حيث بدأت الصين مع مطلع الألفية الثالثة تقديم خدمات أمنية متخصصة لحماية مشروعاتها الاستثمارية في التعدين وغيرها، ولمواجهة أعمال العنف التي طالت بعضها مواطنيها في مواقع العمل، وتوسع النشاط ليشمل خدمات المرافقة والحماية والاستشارات في مناطق القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، ثم دخلت شركات ذات قدرات تشغيلية عالية للتعامل مع الأزمات عالية المخاطر، وبدأت تتمدد في الساحل والصحراء.
وبرغم تعيين عناصر شرطية وقدامى المحاربين في شركات الأمن الصينية الخاصة، تختلف تجربة الصين عن نظيرتها الروسية (شركات عسكرية خاصة) التي تتخذ طابعًا مؤسسيًا يخضع لإشراف مباشر من الدولة، بعد إعادة هيكلة مجموعة “فاجنر” التي توسعت تحت مسمى “فيلق الأمن الروسي الأفريقي” في دول اتحاد الساحل والصحراء الثلاث.
قاعدة عسكرية صينية في الخارج:
نجحت الصين في تعزيز نفوذها الاستراتيجي والاقتصادي في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر بإنشاء قاعدة عسكرية لوجستية ضخمة في جيبوتي قرب ميناء دوراليه ومضيق باب المندب عام 2017، لتكون أول قاعد خارج أراضي الصين، بهدف مكافحة القرصنة، ودعم عمليات السلام والمساعدات الإنسانية الصينية في اليمن والصومال، ومنذ ديسمبر 2008، نشرت البحرية الصينية 46 قوة مهام مرافقة لمكافحة القرصنة في “خليج عدن” بمهمة مخولة من الأمم المتحدة، مما يمكنها أيضًا من حماية مسار مبادرة “الحزام والطريق” داخل القارة، ويمنحها مستقبلًا القدرة على تأمين التعامل مع حالات طارئة تؤثر على مصالحها في المنطقة من استثمارات وبنية تحتية ومواطنين، ولعل استعداد جيبوتي للسماح لعدة جيوش أجنبية بالتواجد على أراضيها أسهم في قرار الصين ببناء منشأتها الأولى هناك.
القواعد والمرافق الصينية المحتملة:
تتولى الشركات الصينية إدارة اللوجستيات العسكرية في العديد من المواني الأفريقية، فيما تسعى الصين لإنشاء سلسلة من المنشآت والمرافق العسكرية ذات الأثر الصغير في غرب أفريقيا كوسيلة للتصدي للنقد الغربي والحفاظ على السردية الصينية حول “الصعود السلمي” والقوة المناهضة للهيمنة الغربية، لذا تدرس الصين إمكانية الاستفادة من خريطة توزيع تواجدها بالموانئ الأفريقية في خدمة هدفها لإنشاء قاعدة عسكرية بغرب أفريقيا، وهو ما تُنبئ به معطيات عديدة، منها أن قاعدة الصين في جيبوتي تم تغيير وظيفتها وغرضها بعد فترة قصيرة من افتتاحها، وبدأت تستخدم ليس فقط توفير الإمدادات اللوجستية لسفن الجيش الصيني، ولكن أيضًا لتدريب القوات المنتشرة في العمليات القتالية في مناورات الذخيرة الحية، حيث سبق أن قامت قوات صينية في جيبوتي بتدريبات تتماشى أكثر مع مهام القتال بدلًا من حماية القوة أو اللوجستيات.
طُرحت عدة مواقع إستراتيجية يُعتقد أنها ستكون مقرًا للقاعدة الصينية الجديدة في أفريقيا بعد قاعدة جيبوتي، من بينها موريتانيا وناميبيا وغينيا الاستوائية، إلا أن الولايات المتحدة عادةً ما تلاحق هذه الطموحات الصينية بالتأثير على خيارات الدول الأفريقية، وهو ما يجده بعض المحللين مكلفًا، وينطلق التخوف الأمريكي من الدلالة التي تكشفها زيارات القادة العسكريين الصينيين إلى هذه الدول، وهو ما يُذكر بتعدد زياراتهم إلى جيبوتي لكنها توقفت بمجرد افتتاح القاعدة رسميًا، ويشير أحدث تقرير سنوي لوزارة الدفاع الأمريكية عن التغلغل العسكري والأمني للجيش الصيني لعام 2024، إلى تنامى علاقات الصين العسكرية مع الجابون عام 2023، لتنفيذ خطط الوصول لخليج غينيا.
المهام الرئيسة لقاعدة غرب أفريقيا:
تمتلك غينيا الاستوائية موقعًا جغرافيًا استراتيجيًا في خليج غينيا غرب أفريقيا، والذي يمثل 25 % من حركة الملاحة البحرية في أفريقيا، و60% من إنتاج النفط في أفريقيا، وحوالي 20 ميناءً تجاريًا، وقامت شركات الدولة والبنوك الصينية بتمويل وبناء 19 مشروعًا حيويًا للبنية التحتية في غينيا الاستوائية بين عامي 2000 و2011.
من المتوقع أن يكون للقاعدة الصينية المحتملة في خليج غينيا، مهام رئيسة، منها مكافحة القرصنة في خليج غينيا، والتى سبق أن شاركت فيها سفن البحرية الصينية، فرغم تراجع أعمال القرصنة لفترة وجيزة منذ عام 2020، فإنها ما لبثت أن تزايدت في عام 2023، بما في ذلك هجمات ضد ناقلات النفط الصينية، لذا ستخدم هذه القاعدة أغراض إعادة الإمداد وزيادة دعم قوة البحرية، ومساعدة دول غرب أفريقيا في تأمين سلامة الملاحة في خليج غينيا، يُضاف إلى ذلك حماية طرق التجارة البحرية الاستراتيجية والمصالح الخارجية الصينية، حيث تشارك الشركات المملوكة للدولة الصينية في الاقتصاد المحلي وتصدر كميات كبيرة من المنتجات والمواد الخام من خليج غينيا، كذلك فإنها تدعم مهام مكافحة الإرهاب، فموجب “البيان المشترك للشراكة الشاملة” لعام 2015 بين الصين وغينيا الاستوائية، ستزيد الصين من “التعاون في عمليات مكافحة الإرهاب مع غينيا الاستوائية”، لذا ستعزز القاعدة العسكرية الصينية هناك أمن طرق التجارة الحيوية وتحمي المصالح الصينية في الخارج، وتعزز التعاون الأمني وتسمح بالوصول المباشر إلى غرب أفريقيا لدعم مهام مكافحة الإرهاب.
الموقف الأمريكي:
يمكن إجمال أهم القضايا المقلقة داخل دوائر صناعة القرار الأمريكي في احتمال زيادة الصين من وجودها العسكري في الخارج بما يتجاوز تقديم خدمات الأمن والحراسة إلى تقديم خدمات التدريب والإسناد القتالي والإمداد للحكومات الأفريقية، وبما يماثل النموذج الروسي، علمًا بأن الشركات الأمريكية الأمنية الخاصة سبق لها الانخراط في هذه النوعية من الأنشطة داخل أفريقيا خاصة في نطاق مسئولية الأفريكوم، فضلًا عن أن إنشاء قاعدة عسكرية صينية غرب أفريقيا، رغم أنه ليس احتمالًا حتميًا، فإنها الصين قد تنشر منشآت عسكرية صغيرة في بعض الموانئ في بعض دول غرب القارة، الأمر الذي سيمثل تحديًا خطرًا للقوة العسكرية الأمريكية بالمحيط الأطلنطي.
لذا يتتبع المسئولون ومؤسسات الفكر في الولايات المتحدة العلاقات الصينية الأفريقية لا سيما ما يتعلق بتحديد مكان القواعد والمرافق المحتملة في الخارج، والتي يُرجح أن يكون أحدها ضمن نطاق غرب أفريقيا نظرًا لإطلالها على المحيط الأطلنطي، ومن شأنها أن تخدم عدة أهداف، منها توسيع الحضور العسكري الصيني بالقارة، وكذلك فقد جاءت التحذيرات من خطورة تقليص الإدارة الأمريكية تحت رئاسة “دونالد ترامب” بموجب “سياسة “أمريكا أولًا” وجودها العسكري في القارة لا سيما غرب أفريقيا التي تشكل أهمية جيواستراتيجية، لأنها توفر فرصًا دفاعية حيوية يمكن أن تدعم تركيز الإدارة الحالية على الأولويات الاقتصادية، في وقت يتعذر فيه حماية المصالح الأمريكية عبر وكلاء أو عن بعد مثلما تفعل قوى دولية أخرى، في الوقت الذي تتزايد فيه حجم ونطاق الاستثمارات العسكرية الصينية، وخطورة أن تتبنى استراتيجية الدفاع الأمريكية الجديدة مقاربة محدودة الموارد والمواقف في أفريقيا، خاصةً إذا تحملت الدول الأفريقية مزيدًا من السيطرة على أمنها الخاص وشاركت في تكاليف ذلك، مثلما ضغطت إدارة “ترامب” من أجل التغيير مع أوروبا وحلفائها وشركائها في آسيا، وتسعى في أفريقيا إلى التحول نحو التجارة بدلًا من المساعدات مع التركيز على توسيع الصادرات الأمريكية والاستثمار الخاص.
كما يرى الخبراء الأمريكيون ضرورة وجود مقاربة من وزارة الدفاع الأمريكية تجاه غرب أفريقيا كجزء من تصور شامل للقارة، مع أهمية أن تُكثف الإدارة الأمريكية تواصلها مع الدول الأفريقية التي تمتلك خيارات للحركة، وأن تتعامل استراتيجية الدفاع الأمريكية مع التبعات المحتملة للتوسع الصيني خارج منطقة الإندوباسيفيك، بما في ذلك احتمال بناء الصين قاعدة عسكرية أو قدرة عسكرية رئيسة غرب أفريقيا، وأن تحافظ الولايات المتحدة على التوازن بين دبلوماسيتها الدفاعية وعلاقاتها العسكرية الثنائية وتعاونها في مجالات مكافحة الإرهاب بالقارة.
ختامًا، مع تصاعد المنافسة بين القوى الكبرى على النفوذ في أفريقيا، حاولت الصين التأكيد على أن سياستها تعتمد على دعم خيارات التنمية الاقتصادية، إلا أن التقييمات تشير إلى احتمالات بروز عسكرة ناعمة للنشاط الاقتصادي الصيني في غرب أفريقيا، وستكون الإدارة الأمريكية أمام تحدي كيفية التوفيق بين احتياجات زيادة الموارد الأمريكية المخصصة للشراكات الأمنية والدفاعية بالقارة وتنامي الحضور العسكري للصين (وروسيا)، ويمكن القول إن الصين قد تلجأ إلى خيار مأسسة الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة حال تحققت من وجود ترحيب من الحكومات الأفريقية، برغم تجنب الدبلوماسية الصينية الدخول في صراعات دولية تهدد مصالحها الاقتصادية، وتنفيذًا لمفهوم “القوة الصينية الشاملة”، يُتوقع أن تركز الصين في الوقت الراهن على تنظيم تدريبات عسكرية مشتركة مع الدول الأفريقية بدلًا من اللجوء لخيار إنشاء قاعدة عسكرية في غرب أفريقيا الذي لن تقبله الولايات المتحدة.