تشهد إسرائيل في الآونة الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في حدة الانتقادات الموجهة إلى سياسات رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو”، على خلفية استمرار التصعيد العسكري في غزة لقرابة عامين، وما أفرزه ذلك من تداعيات سلبية على مختلف المؤشرات الاقتصادية الكلية، بما يعكس تنامي حالة الاستياء وعدم الرضا داخل المجتمع الإسرائيلي، وتصاعد المخاوف بشأن قدرة الحكومة الحالية على إدارة الانعكاسات الاقتصادية المترتبة على هذه الحرب.
تزايد الانتقادات:
كشفت وثيقة صادرة من 80 خبيرًا اقتصاديًا إسرائيليًا أن استمرار الحرب على غزة يفاقم من حدة التحديات التي يواجهها الاقتصاد[1] نتيجة الارتفاع المتواصل في تكلفة العمليات العسكرية، محذرين من التداعيات المحتملة لمواصلة الحرب واحتلال غزة، والتي يمكن أن تنعكس في عدد من الأبعاد الاقتصادية، كارتفاع معدل هجرة العقول، وانخفاض الإنتاجية، مما سيؤدي إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب ارتفاع الإنفاق الدفاعي الذي سيتم تعويضه برفع الضرائب، وتعبئة المزيد من قوات الاحتياط بما سيؤثر على عرض العمالة في سوق العمل، وارتفاع احتمالية فرض عقوبات اقتصادية من قبل الدول الأوروبية والشركاء التجاريين الرئيسيين.
إلى جانب ذلك، أعلن منتدى الأعمال الإسرائيلي، الذي يضم نحو 200 مالكًا ومديرًا تنفيذيًا لشركات إسرائيلية رائدة، أن السياسة الحكومية التي يقودها “نتنياهو” تقود إسرائيل إلى ركود اقتصادي وسياسي خطير وغير مسبوق، مؤكدًا على ضرورة إنهاء الحرب، وإطلاق سراح الرهائن، وتحديد موعد للانتخابات.
من ناحية أخرى، وجهت بعض الشخصيات السياسية انتقادات لسياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، حيث اعتبر زعيم المعارضة “يائير لابيد” أن الأزمات الاقتصادية التي تواجهها إسرائيل تُعزى إلى سياسات حكومة “نتنياهو”، وليس إلى الضغوط الخارجية المفروضة من الدول الأخرى، محذرًا من أن استمرار النهج الحالي قد يدفع بإسرائيل نحو مصاف الدول النامية.
وفي السياق ذاته، وجّه رئيس الأركان الإسرائيلي السابق “غادي آيزنكوت” انتقادات حادة لرئيس الوزراء، مؤكّدًا أن الأضرار الناجمة عن حرب غزة قد تكون غير قابلة للإصلاح، وأنه لن تتوافر فرصة ثانية لمعالجتها، بينما أعرب رئيس اتحاد مصنعي إسرائيل “رون تومر” عن تضرر قطاع الصناعة الإسرائيلي بشكل كبير جراء استمرار حرب غزة، مؤكدًا أن الاقتصاد الإسرائيلي سيتضرر بشدة إذا اتجه فعليًا للاكتفاء الذاتي.
تفاقم الأزمات:
بدأت سلسلة الانتقادات لسياسات “نتنياهو” وتداعياتها الاقتصادية، بعدما أعلن خلال مشاركته بمؤتمر بوزارة المالية، في 15 سبتمبر 2025، أن الاقتصاد الإسرائيلي يواجه “عزلة دولية”، مما يستدعي التوجه للاكتفاء الذاتي، إلا أنه قد عاد عقب ذلك لتغيير نبرة تصريحاته مشيرًا إلى أن رد الفعل السلبي من الأسواق على مصطلح “العزلة الدولية” كان مجرد “سوء فهم”، مستندًا إلى بعض المؤشرات الاقتصادية من بينها؛ قوة سعر صرف الشيكل المستقر خلال فترة الحرب بين 3 و4 شيكل لكل دولار، والأداء القوي لأسواق المال، وتراجع معدل البطالة إلى 3% عام 2024 [2] ، وارتفاع تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
ورغم محاولة “نتنياهو” إبراز بعض المؤشرات الاقتصادية التي تبدو مستقرة، فإنه تجاهل في المقابل العديد من المؤشرات الأخرى التي تعكس ضغوطًا متزايدة وتسببت في تصاعد موجة الانتقادات لسياساته، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
المقاطعة الدولية: تشهد إسرائيل مقاطعة من بعض الدول، حيث أعلن اتحاد المصنعين الإسرائيليين عن توقف العديد من الصفقات التجارية والاستثمارية بسبب رفض التعامل مع رجال الأعمال الإسرائيليين، كما أعلنت هولندا حظر دخول وزيري الأمن القومي “إيتمار بن غفير”، والمالية “بتسلئيل سموتريتش” إلى أراضي الدول الـ 29 الموقعة على اتفاقية شنغن، بما فيها ألمانيا والنمسا وبولندا، فيما تعتزم رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” اقتراح تعليق الدعم الثنائي المقدم لإسرائيل[3]، وتجميد جزء من المزايا التجارية التي تتيحها اتفاقية الشراكة الموقعة مع تل أبيب، كما اتجهت العديد من الجامعات والمؤسسات الأكاديمية والهيئات العلمية حول العالم إلى قطع علاقاتها مع نظيراتها في إسرائيل، مما يعكس اتساع نطاق الضغوط الدولية ليشمل المجال التعليمي والبحثي، الأمر الذي قد يحد من قدرة إسرائيل على الانخراط في التعاون العلمي وتبادل المعرفة والتطوير التكنولوجي مع العديد من الدول.
تصدع قطاع التكنولوجيا: أصدر مركز “تاوب لأبحاث السياسات الاجتماعية” الإسرائيلي تقريرًا أشار فيه إلى ارتفاع معدل البطالة بين العاملين في قطاع التكنولوجيا، وانخفاض عدد الوظائف الشاغرة بسبب هجرة العقول الناتجة عن استمرار حرب غزة، وتسارع استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في ظل استبدال العمالة الماهرة بأنظمة آلية[4].
تدهور المؤشرات الاقتصادية الكلية: تكشف عدة مؤشرات اقتصادية عن تراجع الأوضاع الداخلية في إسرائيل نتيجة لاستمرار حرب غزة، وارتفاع الإنفاق العسكري وتصاعد المقاطعة والعزلة الدولية، وهو ما يتضح من خلال التالي:
- الناتج المحلي الإجمالي: تباطأ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لإسرائيل بشكل ملحوظ خلال عام 2024 بضغط من انخفاض معدل الاستهلاك والاستثمارات وتوقف النشاط الاقتصادي، وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي، حيث وصل إلى 0.9% في عام 2024 مقارنة بنحو 1.8% خلال عام 2023، و6.3% خلال عام 2022، وهو ما يعكس تأثيرًا واضحًا لحرب غزة على النشاط الاقتصادي الإسرائيلي، ويُشار إلى أن هذا التأثير قد استمر حتى عام 2025 حيث سجل الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثاني 2025 (- 3.46%) مقارنة بنموه بنسبة 3.14% خلال الربع الأول من نفس العام.

- الدين الحكومي: ارتفع الدين الحكومي بسبب الزيادة الكبيرة في الإنفاق العسكري لتغطية تكاليف الحرب، وإصدار المزيد من السندات المحلية والدولية، والاعتماد على الاقتراض لسد الفجوة المالية، ما أدى في النهاية إلى زيادة كبيرة في الدين الحكومي حتى بلغ حوالي 1.33 تريليون شيكل عام 2024 مرتفعًا من 1.13 تريليون شيكل عام 2023، فيما ارتفعت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024 بمقدار 7.7 نقطة مئوية، لتصل إلى 69% مقارنة مع 61.3% عام 2023 [5].
- عجز الميزان التجاري: بلغ عجز الميزان التجاري الإسرائيلي 29.83 مليار دولار خلال عام 2024، حيث سجلت الصادرات 61.7 مليار دولار مقارنة بالواردات التي وصلت إلى 91.54 مليار دولار، وفقًا لقاعدة بيانات “Trade Map”، وقد اتسع عجز الميزان التجاري الإسرائيلي خلال عام 2024 مقارنة بالعام السابق، نتيجة لارتفاع الواردات بنسبة 10.07% على أساس سنوي، مقارنة بنسبة ارتفاع الصادرات البالغة 2.98% على أساس سنوي، ومن المتوقع اتساع هذا العجز خلال العام الجاري بفعل مقاطعة بعض الدول للمنتجات الإسرائيلية، وفي ظل توجيهات نتنياهو الأخيرة بأهمية تقليص اعتماد البلاد على العالم الخارجي.

- تخارج الاستثمارات الأجنبية المباشرة: شهد الاقتصاد الإسرائيلي تخارجًا في الاستثمارات الأجنبية المباشرة بقيمة 10.478 مليار دولار خلال عام 2024 مقابل 7.911 مليار دولار خلال العام السابق، بنسبة زيادة تبلغ 32.4% على أساس سنوي، وفقًا للبيانات الصادرة عن “الأونكتاد”، ويُظهر الشكل التالي بلوغ تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الخارجة من إسرائيل عام 2024 بسبب تداعيات حرب غزة مستوى قريبًا من مثيلتها المسجلة أثناء جائحة كورونا، ومن المرجح أن تشهد المزيد من الارتفاع الفترة المقبلة؛ إذ بدأت بعض البنوك وشركات التأمين وصناديق الاستثمار الكبرى في تحديث نماذج المخاطر الخاصة بها، واضعة إسرائيل في خانة “الاقتصاد عالي المخاطر” نتيجة العزلة الدولية، بما قد يرفع تكلفة الاقتراض ويقلّص الاستثمارات الأجنبية.

وختامًا، يتضح أن استمرار حرب غزة قد ألقى بظلال ثقيلة على مختلف مؤشرات الاقتصاد الإسرائيلي، وأفرز موجة واسعة من الانتقادات الداخلية والخارجية لسياسات الحكومة الراهنة، الأمر الذي يعني أن المضي قدمًا في النهج الحالي قد يعمّق الأزمات الاقتصادية ويُفاقم عزلة إسرائيل الدولية، لا سيما في ضوء تزايد الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، الأمر الذي قد يدفع المزيد من الدول لتضييق الخناق على الاقتصاد الإسرائيلي.
[1] محمد وتد، “خبراء يحذرون: احتلال غزة يهدد بانهيار اقتصادي لإسرائيل”، الجزيرة، 15 سبتمبر 2025. مُتاح على https://tinyurl.com/b3zn3ejk
[2] International Monetary Fund Database, “IMF and Israel”. Available at https://tinyurl.com/52mt65br
[3] “المفوضية الأوروبية تقترح تعليقاً جزئياً لاتفاقية الشراكة مع إسرائيل ومعاقبة وزراء”، الشرق للأخبار. 10 سبتمبر 2025. متاح على https://tinyurl.com/kcmbda3z
[4]. أحمد أنور، “حرب غزة والذكاء الاصطناعي يهددان مستقبل التكنولوجيا الإسرائيلية”، القاهرة الإخبارية. 21 سبتمبر 2025. متاح على https://tinyurl.com/yhxmm77a
[5] “Israel’s Accountant General Releases First Estimate of 2024 Debt-to-GDP Ratio”, Israel Ministry of Finance. 21 January 2025. Available at https://tinyurl.com/43fun3vu.