من المقرر أن يقوم الرئيس الإيراني المنتخب “مسعود بزشكيان” بحلف اليمين في 30 يوليو المقبل أمام مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، وقد أعلن الرئيس الجديد بعض من ملامح سياسته الخارجية خلال حملته الانتخابية، إذ دعا الرئيس بزشكيان خلال حملته إلى بناء “علاقات بناءة” مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية من أجل إخراج إيران من عزلتها، كما وعد بزشكيان بخفض التوترات الدولية واستعادة الدبلوماسية النشطة والمشاركة البناءة مع العالم، وطرح توجه بزشكيان الذي يميل إلى الانفتاح في السياسة الخارجية تساؤلات عن صلاحيات رئيس الجمهورية في صنع السياسة الخارجية بالمقارنة بالمرشد الأعلى، كما يطرح ذلك تساؤلات عن التحديات التي قد تواجهه لاسيما في ضوء وجود مؤسسات دستورية يسيطر عليها المحافظين ومناخ دولي وإقليمي قد لا يكون مواتيًا.
حدود الصلاحيات:
تعد صلاحيات رئيس الجمهورية في رسم السياسة الخارجية محدودة بالمقارنة مع المرشد الأعلى، فالمادة (60) من الدستور تشير إلى أن يتولى رئيس الجمهورية والوزراء ممارسة السلطة التنفيذية باستثناء الصلاحيات المخصصة للقائد مباشرةً، وبموجب هذا الدستور، وبالنظر إلى الصلاحيات المخصصة للمرشد تحديدًا في المادة (110 – فقرة 1 و2) ونجد أنها اختصت المرشد بوضع السياسات العامة التي تعد السياسة الخارجية جزءًا منها بالتشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام، فضلًا عن الإشراف على حسن إجراء السياسات العامة للنظام.
لم يحدد الدستور الإيراني دورًا واضحًا لرئيس الجمهورية في صنع السياسة الخارجية، حيث اكتفى الدستور بمنح رئيس الجمهورية صلاحيات بخصوص مسئولية أمور التخطيط والميزانية والأمور الإدارية والوظيفية للبلاد بشكل مباشر طبقًا للمادة (126).
وفي هذا الإطار فإنه يمكن رؤية أن مشرعي الدستور الإيراني قد ارتأوا في تلك الفترة – أي فترة كتابة دستور 1979 (والمعدل 1989) – أن يكون للمرشد الصلاحيات كافة، بما في ذلك وضع السياسة الخارجية مع بقاء رئيس الجمهورية بوصفه قائمًا بالأعمال الإدارية والسياسية، التي تتناول بشكلٍ كبير القضايا الداخلية في إيران.
وبالرغم من أن إرادة الدستور قد انصرفت – ولو ضمنيًا – إلى ما سبق، فإن سنوات من التطبيق العملي للدستور الإيراني وما تبع ذلك من توازنات للقوى في الداخل الإيراني قد سمح بتوسع ضمني وغير ثابت في بعض الأحيان لصلاحيات منصب رئيس الجمهورية، حيث استطاع الرئيس الإيراني الأسبق “أكبر هاشمي رفسنجاني” (1989 –1997) المناورة واستغلال المساحات الخاصة برئيس الجمهورية وقام بإجراء تحركات على مستوى السياسة الخارجية لإيران استطاع من خلالها التقرب وحلحلة الخلافات بين إيران وبعض دول المنطقة وعلى رأسها الدول الخليجية، وانتهج سياسات تميل إلى فك العزلة عن إيران وإعادة علاقاتها مع الدول الأوروبية، وسعى إلى جذب الاستثمارات الغربية إلى إيران، كما استفاد الرئيس الأسبق “محمد خاتمي” (1997 – 2005) من هامش المناورة الموجود لدى رئيس الجمهورية وكونه المطبق (وليس المشرع) للسياسة الخارجية في تحسين العلاقات مع الغرب عمومًا، إذ زار عددًا من الدول الأوروبية على رأسها إيطاليا وفرنسا وألمانيا، كما وقع اتفاقيات اقتصادية مع عدة دول.
ويواجه الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان تحديات متعددة في سبيل تطبيقه للانفتاح في السياسة الخارجية الذي يصبو إليه، بعض هذه التحديات داخلي والأخر ينبع من الخارج.
التحديات الداخلية:
على الرغم من إمكانية تطبيق نموذج رفسنجاني أو خاتمي في الانفتاح على الغرب، إلا أن هذا الأمر يتوقف في المقام الأول على قدرة بزشكيان على توفير هامش من الحركة، وذلك من خلال علاقته بالمرشد الأعلى، حيث احتفظ رفسنجاني بعلاقات طيبة وتعاونية إلى حدٍ بعيد مع المرشد الأعلى في معظم فترة حكمه، الأمر الذي مكنه من زيادة هامش الحركة المتوافر له واتخاذ قرارات سمحت باستعادة العلاقات الطبيعية مع بعض دول المنطقة وإقامة علاقات مع الغرب أيضًا.
كما قد يواجه بزشكيان تحديات أخرى تتعلق بكيفية التعامل مع مؤسسات الدولة التي يهيمن عليها التيار المحافظ، خاصةً مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، الذي يهيمن عليه التيار المحافظ بصورة كبيرة، ويعد بذلك العقبة الأهم في الإطار المؤسسي الإيراني إزاء خطط بزشكيان في إقامة علاقات منفتحة على الغرب، فوفقًا للمادة (87) من الدستور الإيراني، فإنه يجب على رئيس الجمهورية بعد تشكيل مجلس الوزراء – وقبل أي خطوة – أن يحصل على ثقة مجلس الشورى الإسلامي، ويستطيع خلال فترة حكمه أن يطلب من مجلس الشورى الإسلامي منح مجلس الوزراء الثقة في الأمور المهمة، والقضايا المختلف عليها، وفي هذا السياق فإنه قد يكون من الصعب اختيار شخصيات بعينها لتولى حقيبة الخارجية في حكومة بزشكيان، فمثلًا، فعلى الرغم من الخبرة الطويلة لـ “جواد ظريف” في وزارة الخارجية، والجهد الذي بذله كداعم ومؤيد لبزشكيان في الانتخابات الرئاسية، فإنه قد لا يكون خيارًا واقعيًا أمام بزشكيان نظرًا لوجود احتمالية كبيرة في عدم منحه الثقة من البرلمان المحافظ، وبالتالي المخاطرة بتعطل تشكيل الحكومة.
التحديات الخارجية:
يعد الملف النووي أحد أبرز التحديات التي ستواجه بزشكيان في بداية تولي منصبه، إذ أعلنتالولايات المتحدة عدم رغبتها في العودة للمفاوضات النووية في الوقت الراهن، وعلى الرغم من أن الرفض الأمريكي للدخول في مفاوضات من المرجح أن يكون رفضًا مرحليًا يظل رهن السياق الحالي، فإنه من المتوقع أن تنفتح الولايات المتحدة على استئناف المفاوضات مع إيران في حال إبداء إيران جدية في هذا الصدد، وهو ما سيتوقف على قدرة بزشكيان على فرض أولويات السياسة الخارجية الخاصة به في إيران.
كما تعد الانتخابات الأمريكية المقبلة في نوفمبر 2024 ضمن التحديات التي قد يواجهها بزشكيان، فبحسب استطلاعات الرأي، فإن المرشح الجمهوري والرئيس السابق “دونالد ترامب” يتفوق على منافسه “جو بايدن” لاسيما في أعقاب المناظرة الرئاسية الأخيرة التي جمعت بينهما، وتعد فرص وصول ترامب إلى البيت الأبيض مقلقة بالنسبة إلى إيران بصفة عامة، وبزشكيان بصفة خاصة، حيث يرجح أنه في حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض أن يعاود فرض سياسة الضغوط القصوى، وهو الأمر الذي قد يبدد أمال بزشكيان في رفع العقوبات مرة أخرى وتحسين الوضع الاقتصادي في البلاد.
ويفرض التوتر في المنطقة على خلفية العدوان الإسرائيلي على غزة تحديات أخرى على تصور السياسة الخارجية المنفتحة لبزشكيان، إذ أنه من الصعب حدوث تحول في سياسة إيران الداعمة لفصائل محور المقاومة كون تلك القضية ركيزة أساسية للدولة الإيرانية ويتم وضعها من قبل المرشد الأعلى، لذا فإنه من المرجح أن يستمر النهج القائم لإيران في دعم فصائل محور المقاومة مع محاولة تجنب انخراط الفصائل في مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة والتركيز على إسرائيل كهدف رئيسي للهجمات، وبالتالي وفي ظل عدم تغيير إيران لنهجها في المنطقة وتوجهاتها العامة نحو التطورات في فلسطين ولبنان، فإن ذلك قد يحول دون حدوث اختراق في العلاقات بين إيران والغرب، أما في حال انخفاض التوتر في المنطقة، وانتهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فقد يختلف الأمر بصورة كبيرة.
ختامًا، يمكن القول إن قدرة بزشكيان على تطبيق السياسة الخارجية المنفتحة ستتوقف على قدرته على المناورة والسير على خط رفيع بين تقديم تنازلات للغرب (الذي شهد – أو قد يشهد – تحولات سياسية عميقة، ممثلة في: احتمال فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وتنامي أدوار التوجهات اليمينية في أوروبا)، وبين عدم استعداء قوى الداخل وعلى رأسها المرشد، يُضاف إلى ذلك قدرة بزشكيان على الاستمرار في التمسك بحالة الهدوء الإقليمية، التي عززها الاتفاق السعودي الإيراني الذي رعته الصين في مارس 2023، ويمثل هذا الاتفاق مؤشرًا على نجاح إيران في البحث عن المشترك في مصالحها الذاتية مع دول المنطقة، خاصةً مع صموده حتى الآن أمام العديد من التحديات والتحولات الدولية والإقليمية، وكذا الإبقاء على دور سلطنة عمان كقناة مرنة ومسار مهم للتواصل والتنسيق مع الأطراف الإقليمية والدولية، وذلك في القضايا التي تكون فيها إيران طرفًا مباشرًا، مثل الملف النووي.