انتهجت تونس استراتيجية تنويع الشركاء الدوليين، يأتي ذلك في ضوء التأكيد التونسي على أن علاقاتها مع كافة الشركاء تتم باستقلالية، وعلى الرغم من تمسكها بشراكتها مع الاتحاد الأوروبي، فإن هناك تزايدًا في المخاوف لدى بعض الأطراف الأوروبية من تأثير علاقات تونس مع الصين وروسيا على وتيرة المصالح التونسية الأوروبية المشتركة، وهو ما قد يُغير من قواعد اللعبة السياسية في المنطقة المغاربية، ويتجه بمعادلات العلاقات التونسية الدولية لمسارات جديدة.
مؤشرات التقارب:
درجت الدبلوماسية التونسية على الابتعاد عن سياسة المحاور، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، فيما تشكل إيران والصين وروسيا فواعل إقليمية ودولية مهمة، وتربطهما علاقات ومصالح مع تونس شأنها في ذلك شأن دول منطقة الشرق الأوسط وشمال، ويمكن إيجاز أهم مؤشرات التقارب التونسي مع هذه الأطراف على النحو التالي:
مأسسة التعاون التونسي الصيني:
حافظت تونس على علاقاتها مع الصين باعتبارها علاقات تاريخية، برغم التوجهات الغربية التي حملتها سياسات الرئيس الأسبق “الحبيب بورقيبة”، ومع وصول الرئيس “قيس سعيد” إلى الحكم، تبنى خطابًا منفتحًا على الخارج في مواجهة التحديات العالمية التي أثرت على الداخل التونسي، وهو ما تلاقى مع النظرة الصينية لتونس باعتبارها قادرة على تقريب الصين بشكل أكبر من الأسواق الأوروبية والأفريقية.
في هذا السياق، استضافت تونس في مايو 2012 الاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون الصيني العربي، وانضمت لمبادرة “الحزام والطريق”، وأصبحت مقرًا إقليميًا لكل من منظمة طريق الحرير للتعاون، ولنظام “بيدو” الصيني للملاحة بالأقمار الصناعية، وبدأت المشروعات الاستثمارية الصينية في الانخراط في البنى التحتية في عددٍ من الولايات التونسية، وشاركت الصين في القمة العربية بالرياض عام 2022، والتي طرحت خلالها مجالات رئيسية للتعاون (كالتنمية الأمن الغذائي الطاقة وتأهيل الشباب)، وتلى ذلك تأسيس أطر شراكة استراتيجية بين الصين وتونس، بتوقيع اتفاقيات للتعاون الاقتصادي والفني ومذكرات تفاهم أخرى للاستثمار والتعاون الإنمائي، وتفعيل مبادرة التنمية العالمية.
كما قامت الصين وفي إطار تنشيط دبلوماسيتها الموسعة بالمنطقة ومبادراتها العالمية، بتنظيم زيارة لعضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ووزير الخارجية “وانج يي” إلى تونس في يناير الماضي، وأعقب ذلك مشاركة الرئيس قيس سعيد في منتدى التعاون العربي الصيني في بكين في مايو 2024.
الاهتمام الروسي بتونس:
أسهمت روسيا في مشروعات البنى التحتية والسياحة والتعليم في تونس، بيد أن وتيرة العلاقات بينهما قد شهدت بعض التراجع، لذا سعى الجانب الروسي نحو تنشيطها من جديد في يناير 2019 – في إطار البحث عن أسواق جديدة لاسيما مع دول شمال أفريقيا – مما أسهم في مشاركة تونس في نسختي قمة روسيا – أفريقيا لعامي 2019 و2021، واستئناف عمل اللجنة المشتركة للبلدين في أكتوبر عام 2023، كما دعا وزير الخارجية التونسي نظيره الروسي لزيارة تونس مجددًا في ديسمبر الماضي وألمح إلى إمكانية إقامة شراكة بين الجانبين خلالها، حال رفع العقوبات عن الطيران الدولي، لكنه أكد أن الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي قد شهدت زيادة في حجم التبادل التجاري بين البلدين بنحو ثلاثة أضعاف أي بمقدار 1.5 مليار دولار[1].
ومن المتوقع في إطار البعثات التجارية التونسية الأخيرة إلى روسيا أن تشهد الفترة المقبلة زيادة في حجم الواردات الروسية لتشمل لحوم الدواجن ولحم الأبقار والضأن ومنتجات اللحوم المصنعة، دون التركيز فقط على زيادة منتجات القمح والشعير وزيت عباد الشمس والنفط، إذ تحرص تونس برغم صعوبات توفير السيولة المالية على زيادة مشترياتها من روسيا، وذلك من أجل تحقيق الاستقرار في احتياجات السوق المحلية عامًا بعد عام بسبب ارتفاع درجات الحرارة ومواسم الجفاف الطويلة[2].
وقد تفتح تونس المجال للجانب الروسي للمساهمة مستقبلًا في مشروعات تطوير البنية التحتية للموانئ بما يخدم المصالح المشتركة للبلدين في مناطق غرب ووسط أفريقيا، لاسيما أن تونس قد شرعت في تطوير علاقاتها مع البلدان الأفريقية التي باتت أكثر قربًا من روسيا، ومنها بوركينافاسو، كما أكد الخطاب الرسمي التونسي أن تباعد المواقف الأفريقية والغربية يرجع إلى الرغبة في تحقيق السيادة الدائمة على الموارد الطبيعية، وهو خطاب ينسجم مع التوجهات داخل بعض دول الساحل والصحراء المضاد للهيمنة الأوروبية على ثروات المنطقة.
الاعتبارات الأوروبية:
دعا مسئول السياسة الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي “جوزيف بوريل” إلى النظر في سياسات التقارب التونسي مع كل من روسيا والصين وإيران وتقييم تبعاتها، وجدير بالذكر أن الاتحاد الأوروبي كان أحد أهم الأطراف الدولية الداعمة لتجربة الانتقال الديموقراطي في تونس بعد الربيع العربي، كما أسهمت الشراكة طويلة الأمد بين الطرفين في جعل الاتحاد الشريك الاقتصادي والتجاري الأول لتونس، إلا أن المبادلات التجارية بينهما – خاصةً مع إيطاليا وفرنسا وألمانيا – في تراجع مستمر، في مقابل تقدم المبادلات التجارية مع الصين وأطراف إقليمية أخرى.
تنظر الدول الأوروبية إلى تونس من منطلق موقعها الاستراتيجي الذي يحفظ للدول الأوروبية النفاذ إلى جنوب البحر المتوسط وأفريقيا جنوب الصحراء، ومن أجل مواجهة النفوذ الصيني بالتزامن مع الضغوط الأمريكية، فقد برزت تجاذبات سياسية بين تونس وأوروبا في أعقاب التغيير الذي أدخله الرئيس قيس سعيد على منظومة الحكم التونسية، وكانت ملفات الهجرة غير الشرعية وحقوق الإنسان والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي ضمن نطاق هذه التجاذبات.
وقد سعى الاتحاد الأوروبي من جهة أولى إلى تأمين اتفاق جديد مع تونس – بدفع إيطالي – التي باتت موطنًا ومعبرًا مهمًا للاجئين والمهاجرين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء التي تعيش على وقع أزمات عدة سياسية واقتصادية واجتماعية ومناخية، ومن جهة ثانية، طرحت أوروبا مبادرة فريق أوروبا للاستثمار في تونس بتمويل من بنك الاستثمار الأوروبي، وضمن استراتيجية “البوابة العالمية” التجارية لمنافسة مبادرة “الحزام والطريق”، مع التركيز على الاستثمار في مشروعات البنى التحتية وربط السلع والأفراد والخدمات خلال الفترة 2021 و2027.
وتواجه التحركات الأوربية العديد من التحديات التي ترتبط بمدى الالتزام بقواعد مكافحة تغيير المناخ، وانتشار البضائع الصينية في أسواق الجنوب، وتتخوف أوروبا أن تحذو تونس حذو بعض الدول العربية التي طورت معاملاتها المالية مع الصين عبر سندات “الباندا” الدولية المستدامة أو عبر منظومة الدفع البنكي العابر للحدود، والتي تأتي في إطار مساعي الصين لزيادة عضوية رابطة المصارف الصينية العربية، واتفاقيات التجارة الحرة الثنائية والإقليمية مع الدول العربية، الأمر الذي إن تحقق مع تونس فقد يمثل خصمًا من حجم المعاملات المالية بين تونس ودول الاتحاد الأوروبي.
وجدير بالذكر أن الاتحاد الأوروبي قد ضغط على تونس كي تتوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي بما يسهل تفعيل برامج المساعدة الثنائية والمتعددة الأطراف، إلا أن تونس حصرت قروضها الخارجية في مصادر عربية وأفريقية بجانب البنك الدولي بعدما سددت ديونها المحلية والخارجية لعام 2023 بقيمة 3.7 مليار دولار، وتحتاج وفق ميزانية العام الجاري 9 مليار دولار، منها 5 مليار دولار ديون خارجية[3].
وفي الختام، تفرض انعكاسات تقلبات الأسواق التجارية والمالية الدولية على تونس وغيرها من دول الجنوب أهمية تطوير تعاونها مع الشركاء الدوليين، ومن ثم فإنها تستثمر الطموحات الروسية والصينية بالتوسع وتعزيز النفوذ من أجل التخفيف من وطأة القيود الأوروبية، وقد يمتد تأثير العلاقات المتنامية بين تونس وبين روسيا والصين ليحد من محاولات تنشيط كل من مجلس الشراكة التونسي – الأوروبي، ومفاوضات صندوق النقد خلال العام الجاري، بالرغم من التحديات التي تواجه تدبير الاحتياجات التمويلية التونسية من مصادر بديلة.
[1] “Foreign Minister Sergey Lavrov’s remarks following a meeting with President of the Republic of Tunisia Kais Saied, Tunis, December 21, 2023”, The Ministry of Foreign Affairs of the Russian Federation. 21 December 2023. Available at https://mid.ru/en/maps/tn/1922368/
[2] “Russia expects Tunisia to approve veterinary certificates for imports of Russian meat products”, Interfax. 8 July 2024. Available at https://interfax.com/newsroom/top-stories/104090/
[3] رجح البنك الدولي انخفاض عجز الميزانية العامة التونسية ليصل إلى 5.6% من إجمالي الناتج المحلي هذا العام، للمزيد، انظر: الصراع والديوان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أخر المستجدات الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (مجموعة البنك الدولي، أبريل/ نيسان 2024) ص 8، وتقرير حول مشروع ميزانية الدولة لسنة 2024 (الجمهورية التونسية، وزارة المالية، أكتوبر 2023) ص 64.