في ظل الصدمات المتتالية التي تعرض لها الاقتصاد الأمريكي مؤخرًا، التي أثرت على معظم الأنشطة الاقتصادية عالميًا، يُثار التساؤل حول استمرار هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصادي العالمي، وعلى الرغم من أن الدولار هو عملة الاحتياط الرئيسية في العالم، فإنه تتزايد عوامل تراجعه خاصةً مع تزايد حالة عدم اليقين بشأن مستقبل الاقتصاد الأمريكي، بالإضافة إلى ذلك، فإن إعادة تنظيم النظام المالي والاقتصادي العالمي إلى كتل منفصلة وغير متداخلة، مثل مجموعة “بريكس”، أصبح يشكل تهديدًا مباشرًا على مدى سيطرة الدولار خلال العقود المقبلة.
وقد زاد الدين العام في الولايات المتحدة في أواخر الستينيات، بسبب ارتفاع الإنفاق الحكومي، بالإضافة إلى مشاركتها في حرب فيتنام، مما أثار الشكوك حينها حول استدامة قوة الدولار، وفي عام 1971، أقرت واشنطن إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار إلى الذهب (على خلاف اتفاقية “بريتون وودز” 1944)[1]، ومنذ ذلك الحين استُخدم الدولار في تسعير معظم السلع خاصةً السلع الأساسية والاستراتيجية، لاسيما في ضوء دور الولايات المتحدة في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، مما دعم استخدام الدولار.
التراجع في الاحتياطات الدولية:
شهد العقدين الماضيين تراجع مساهمة الدولار في الاحتياطات الأجنبية للدول، حيث بدأت الدول في تنويع احتياطاتها من العملات لتقليل الاعتماد على الدولار، خاصةً في ظل التوترات الاقتصادية والجيوسياسية التي قد تؤثر على استقرار العملة الأمريكية، ويوضح الجدول التالي تطور نسبة مساهمة الدولار في احتياطات الدول بين عامي 2000 و2023[2]:
العام | 2000 | 2005 | 2010 | 2015 | 2016 | 2017 | 2018 | 2019 | 2020 | 2021 | 2022 | 2023 |
نسبة المساهمة | 71.14 % | 66.52 % | 62.25 % | 65.75 % | 65.36 % | 62.73 % | 61.76 % | 60.75 % | 58.92 % | 58.80 % | 58.52 % | 58.4 % |
يُلاحظ من خلال الجدول السابق أن مكانة الدولار بدأت تتراجع لمصلحة العملات الأخرى خلال السنوات الماضية، حيث تراجعت مساهمة الدولار من 71.14% في نهاية عام 2000 إلى 58.4% في نهاية عام 2023، وفي المقابل شهدت نفس الفترة ثباتًا نسبيًا لإسهام اليورو (ثاني أكبر عملة مساهمة في الاحتياطات العالمية)، حيث سجلت حوالي 18,3 % في نهاية عام 2000 مقابل 19,9% في نهاية عام 2023.
تراجع المؤشرات الاقتصادية:
كشف تقرير الوظائف الأمريكي في 2 أغسطس 2024، عن بعض الاختلالات في الاقتصاد الأمريكي، حيث أظهرت البيانات أن معدل البطالة قد ارتفع إلى أعلى مستوى له في ثلاث سنوات، ليصل إلى 4.3% في يوليو 2024، وذلك نتيجة لتباطؤ كبير في عمليات التوظيف، وقد أثار هذا التباطؤ اضطرابات في أسواق المال والبورصات العالمية، بسبب المخاوف من احتمال حدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة، ويتزامن ذلك مع السياسات النقدية المتقلبة التي تتبناها الولايات المتحدة، لاسيما مع تراجع هيمنة الاقتصاد الأمريكي على المستوى العالمي، حيث انخفضت نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى حوالي 25% في 2022، مقارنة بـ30% في عام 2000.
كما شهدت السنوات الأخيرة تحولًا في مركز القوة الاقتصادية لمصلحة الصين، بالإضافة إلى ذلك، تواجه الولايات المتحدة أزمات أخرى تتعلق بارتفاع الدين العام إلى 35 تريليون دولار[3]، فضلًا عن ارتفاع دينها الخارجي إلى حوالي 26 تريليون دولار في مارس 2024[4]، ومن المعروف أن العملة المحلية لأي دولة تضعف عندما يتراجع الثقة في قدرة تلك الدولة على سداد ديونها، الأمر الذي يهدد قوة الدولار في الفترة القادمة، بما يدفع لتقليل الاعتماد عليه.
ارتباط النفط بالدولار:
يعد النفط سلعة استراتيجية يتم تسعيرها بالدولار الأمريكي، والدول التي تستورد النفط تدفع ثمنه بالدولار، وتعتمد البلدان المصدرة للنفط على الدولار كوسيلة رئيسية للتبادل ومخزن للقيمة مع عدم وجود بديل أخر، مما يعكس الدور الراسخ الذي يلعبه الدولار في سوق النفط العالمي.
يُضاف إلى ذلك أنه يتم تسعير كل العمليات المرتبطة بصناعة النفط بالدولار أيضًا، بدءًا من استئجار منصات الحفر، والخدمات المرتبطة بحقول النفط، وصولًا إلى تشغيل خطوط ومعدات الآبار، وتوزيع النفط وتصديره للوجهات النهائية، فإنه لُوحظ في الوقت الحالي زيادة معاناة بعض الدول من عدم وجود سيولة دولارية تستطيع الدول من خلالها استيراد النفط بالدولار، مما يضع أعباء إضافية على ميزانيتها.
كما يوجد اتجاه من بعض الدول المصدرة للنفط لتنويع عملاتها من الإيرادات النفطية بدلًا من الاقتصار على الدولار فقط، فيما تقوم دولة مثل روسيا ببيع نفطها لبعض الدول بعملة غير الدولار، ويُقلص كل ذلك بدوره من سيطرة الدولار على سوق النفط العالمي، وبالتبعية يقلص الطلب على العملة الأمريكية على الصعيد العالمي.
العقوبات والدولار:
تستخدم الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية والمالية كمنهج رئيسي في سياستها الخارجية، إما بهدف الردع أو التحجيم أو إحداث تغيير شامل في سلوك الدولة المستهدفة، وعلى الرغم من تحقيقها بعض المكاسب من خلال هذا النهج، فإن ذلك قد أدى إلى ردود فعل عكسية على المستوى الدولي، خاصةً مع ربط تلك العقوبات باستخدام الدول المستهدفة للدولار، حيث تقوم الولايات المتحدة بمنع وصول الدولار للدول والكيانات المفروضة عليها عقوبات، وبالتالي يتم عزلها عن النظام المالي العالمي الذي يعتمد بشكل رئيسي على الدولار.
أدى هذا الوضع إلى جعل العقوبات الأمريكية تهديدًا لمصالح العديد من الدول المتضررة لاسيما الدول التي تعتمد على الدولار في معاملاتها التجارية، حيث تربط الولايات المتحدة قوة عملتها الدولارية بقدرتها على فرض العقوبات الاقتصادية، ثم أن توظيف الدولار كأداة عقابية قد دفع العديد من الدول والكيانات إلى البحث عن بدائل للدولار لتيسير تجارتها واستثماراتها، بعد إدراكها أن اعتمادها الكبير على الدولار يضع سياساتها رهينة للمصالح الأمريكية، ونتيجةً لذلك، قد تنخفض قدرة الولايات المتحدة على فرض العقوبات إذا فقد الدولار قوته أمام العملات البديلة.
التخلي عن الدولار:
اتجهت بعض دول العالم إلى التخلي عن الدولار في المعاملات التجارية عن طريق استبداله بالعملات الوطنية وخاصة في التجارة الثنائية، حيث يُلاحظ أن ذلك التوجه يمثل بديلًا سريعًا، وهو آخذ في الانتشار على الصعيد العالمي، فعلى سبيل المثال يُلاحظ تركيز الصين على زيادة استخدام “اليوان” في تعاملاتها مع الدول الآخرى، حيث أصبحت العملة الصينية تشهد زيادة في استخدامها في التجارة الدولية والاحتياطات، وقد بدأت البرازيل تسلك نفس المسار في ظل العقوبات الأمريكية التي تفرضها، إذ فرضت واشنطن عقوبات على صادرات روسيا وبيلاروسيا من الأسمدة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، مما شكل تهديدًا كبيرًا على الاقتصاد البرازيلي الذي يعتمد بشكل كبير على صادرات المنتجات الزراعية والحيوانية.
وختامًا، يمكن أن يصبح التخلي عن الدولار في تسوية المعاملات التجارية أمرًا ممكنًا، لكن نجاح ذلك الأمر على المستوى العالمي يحتاج إلى عدة سنوات وإجراءات دقيقة، ويعود ذلك إلى التشابك العميق بين الاقتصاد العالمي والدولار، بالإضافة إلى التدخلات الأمريكية الكبيرة في مختلف الأنشطة الاقتصادية العالمية، حيث أن أي تحول بعيدًا عن الدولار قد يؤدي إلى آثار سلبية على الاقتصاد العالمي، نظرًا لاعتماد العديد من الدول والشركات على الدولار في تجارتها واستثماراتها، وبالتالي، فإن الانتقال إلى نظام مالي جديد يتطلب تنفيذًا تدريجيًا لتجنب الاضطرابات الاقتصادية، ثم أن التحول بعيدًا عن الدولار سيعتمد بشكل أساسي على المكاسب والمنافع الاقتصادية التي ستحققها تلك الدول نتيجة لذلك التحول، وهو عامل مؤثر في سرعة التحول بعيدًا عن الدولار من عدمه.
[1] ألقى الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” خطابًا متلفزًا أعلن فيه إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار إلى الذهب، وأدت هذه الخطوة إلى انهيار نظام بريتون وودز النقدي الدولي، والذي كان الدولار الأمريكي فيه قابلًا للتحويل إلى الذهب بمعدل 35 دولارًا للأونصة، وتم ربط العملات الرئيسية الأخرى بأسعار ثابتة مقابل الدولار، وقد انتهى الأمر بتمهيد الطريق لأن يصبح الدولار الأمريكي عملة رئيسية في التعاملات التجارية والاحتياطات الأجنبية للدول.
[2] Currency Composition of Official Foreign Exchange Reserves (COFER)”, International Financial Statistics (IFS), International Monetary Fund (IMF). 2024.
[3] Fiscal Data, US Department of the Treasury: https://fiscaldata.treasury.gov/americas-finance-guide/national-debt/
[4] US Department of the Treasury, 31 March 2024. Available at https://home.treasury.gov/data/treasury-international-capital-tic-system-home-page/tic-forms-instructions/us-gross-external-debt