تشهد سوريا في الوقت الراهن حالة من الزخم المتصاعد والاهتمام من قبل الأطراف الإقليمية والدولية إزاء التطورات التي بدأت منذ 27 نوفمبر2024 عندما قامت المعارضة المسلحة والمنضوية تحت لواء “عمليات الفتح المبين” في شمال غرب سوريا بعملية عسكرية مفاجئة أطلقت عليها عمليات “ردع العدوان”، لتسيطر المعارضة المسلحة على عدد من المدن التي كانت تخضع للنظام السوري السابق إلى أن وصلت المعارضة لدمشق.
مواقف دولية متأرجحة:
مواقف داعمة للنظام السوري: تمسكت كل من إيران وروسيا بموقفهما الدعم للنظام السوري السابق، والذي ظهر من خلال كل من تصريحات المتحدث باسم الكرملين “دميتري بسكوف” التي أكدت على حق سوريا في استعادة المدن التي سيطرت عليها المعارضة المسلحة وإعادة النظام الدستوري بها، وكذا محاولة روسيا استعادة تلك المدن بالتنسيق مع النظام السوري من خلال شن غارات جوية على مراكز القيادة للفصائل المسلحة، أما بالنسبة لإيران فقد اتهمت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل بأنهما من يقفا خلف ذلك التصعيد وعمدت إلى محاولة الوصول لترتيبات وتفاهمات بخصوص وجودها المستقبلي هناك، وظهر ذلك من خلاللقاءات واتصالات وزير الخارجية الإيراني “عباس عراقجي” مع روسيا وتركيا.
مواقف معارضة للنظام السوري: اتهمت الولايات المتحدة الرئيس السوري بأنه السبب وراء حالة الفوضى، لاعتماده على روسيا وإيران ورفضه للعملية السياسية، واتخذت الولايات المتحدة والدول الغربية كـ “فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة” موقفًا يُركز على ضرورة وقف التصعيد في سوريا وحماية المدنيين، من خلال التوافق على الحل السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254 لسنة 2015 كما تم التأكيد على مواصلة حماية الأفراد والمواقع العسكرية الأمريكية لضمان عدم استغلال تنظيم “داعش” وتنظيم “القاعدة” للأوضاع من أجل إعادة أنشطتهم مرة أخرى، وبالنسبة للرئيس المنتخب “دونالد ترامب” فقد أكد على أن التطورات في سوريا لا تعني الولايات المتحدة.
مواقف متأرجحة: لعل تركيا أبرز من تبنى ذلك الموقف، حيث أكدت على أهمية تنسيق الجهود لتحقيق الاستقرار في سوريا دون الإخلال بمسار صيغة الأستانة، كما دعت لوقف الهجمات مشيرة إلى أن تقوض العملية السياسية التي تهدف لإنهاء النزاع في سوريا من خلال إنشاء أربع مناطق منزوعة السلاح، أما الدول العربية اتخذت موقف منضبط وعاقل، خصوصًا الدول التي انخرطت في اجتماعات ومباحثات بشأن التطورات في سوريا (مثل التي عقدت على هامش منتدى الدوحة) لعل أبرزها: مصر، والسعودية، والعراق، والأردن، وقد أكد الموقف العربي على ضرورة وحدة وسلامة الأراضي السورية.
تحولات مرحلية:
أدى سقوط النظام السوري إلى تحول في مواقف بعض الدول وظهور قواسم مشتركة لم تكن موجودة بين موقف داعمي النظام السوري وموقف المناهضين له وخصوصًا بين موقف المتناقضين روسيا والولايات المتحدة فبعد أن اتهم الجانبان بعضهما البعض في جلسة مجلس الأمن الدولي التي انعقدت في 3 ديسمبر 2024 بالتسبب في تلك التطورات، لم تحدث خلافات للمرة الأولى في جلسة 9 ديسمبر 2024 حول سوريا بعد سقوط النظام، فيما تبنى مجلس الأمن بإجماع أعضائه صيغة بيان في يوم 17 ديسمبر 2024 تتضمن ضرورة أن تتواصل عمليات مكافحة الإرهاب في سوريا من أجل منع عودة أنشطة الجماعات الإرهابية لا سيما تنظيم داعش للظهور مرة أخرى، وكذا أهمية أن يتم الانتقال والتحول السياسي في سوريا بشكل ديمقراطي شامل مستندًا للمبادئ الأساسية للقرار 2254.
كما فتح الطرفان قناة اتصال مع الفصائل المسلحة من أجل الحفاظ على مصالحهم وأمن قواعدهم العسكرية الموجودة في سوريا بالرغم من أن روسيا كانت تتبنى موقفًا معارضًا لهم، وكذلك الولايات المتحدة التي كانت تصنف أغلب هذه التنظيمات باعتبارها تنظيمات إرهابية وضمتها لقوائم الإرهاب، ليتم تدول أنباء عن إمكانية خروج بعض فصائل المعارضة من قوائم الإرهاب كـ”هيئة تحرير الشام” لا سيما بعد تصريحات وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” في 14 ديسمبر 2024 التي أفادت بوجود تواصل مباشر مع الهيئة كان آخره خلال مؤتمر العقبة.
كما أسرعت تركيا إلى مد جسور التواصل مع الإدارة السورية الجديدة، وأصدرت وزارة الدفاع التركية تصريحات أكدت على الاستعداد التركي لتقديم دعم عسكري وتدريبي للإدارة السورية، وبالنسبة للموقف الإيراني، فلم يظهر تغيرًا كبيرًا سوى الابتعاد عن التصريحات المعارضة لتلك الفصائل والاتجاه لتحسب وانتظار ما سيتبناه النظام السوري الجديد إزاء إيران وهو ما ظهر خلال تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية “إسماعيل بقائي” يوم 17 ديسمبر 2024 المتعلقة بالاستعداد الإيراني لإعادة فتح السفارة بدمشق بمجرد توافر الظروف الملائمة وكذا تصريحات السفير الإيراني في سوريا “حسين أكبري” التي أشارت إلى عودة افتتاح السفارة خلال الفترة المقبلة.
وقد ظهر تحول أيضًا في مواقف الدول الأوروبية، حيث قامت فرنسا للمرة الأولى منذ 12 عام، بإرسال بعثة دبلوماسية إلى دمشق لافتتاح السفارة الفرنسية، ولم تقف التطورات على حد فرنسا بل قامت وزارة الخارجية الألمانية بمحادثات مع زعيم هيئة تحرير الشام “أحمد الشرع” من خلال مبعوثها بسوريا “شتيفان شنيك”، وأرسلت بريطانيا أيضًا مجموعة من الدبلوماسيين ومسئولين من وزارة الخارجية للاجتماع مع الشرع، فضلًا عن مطالبة رئيسة المفوضية الأوروبية “أرسولا فون دير لاين” بمراجعة سياسة العقوبات الأوروبية على سوريا من أجل تسهيل عمليات إعادة الإعمار وأكدت على استعداد الاتحاد الأوروبي لتكثيف اتصالاته المباشرة مع الإدارة الجديدة لسوريا.
بينما ظل موقف الدول العربية منضبط وعاقل، ويدعو إلى سلامة ووحدة الأراضي السورية وحدوث تحول سياسي سلمي، وقد اتضح ذلك من خلال مؤتمر العقبة بمشاركة عدة دول، أبرزها: مصر والأردن والسعودية والبحرين وقطر والإمارات والعراق ولبنان، وجامعة الدول العربية، ودعا إلى ضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالية بشكل تعددي وبتوافق سوري من أجل إنجاح عملية التحول السياسي بشكل سلمي.
دوافع التحول:
تكمن أبرز دوافع التحول في مواقف بعض الدول طبقًا لمصلحة كل دولة فبالنسبة لتوافق بعض المواقف الأمريكية والروسية فقد يرجع ذلك إلى رغبة الجانب الروسي والأمريكي في منع عودة ظهور الجماعات الإرهابية إلى واجهة المشهد في سوريا مرة أخرى وخصوصًا تنظيمي داعش والقاعدة لما قد يمثله ذلك من تهديدات على تواجدهما العسكري في سوريا، لذلك رحبت الدولتان بالتنسيق مع الفصائل المسلحة.
وبالنسبة للموقف التركي، فقد اتسمت علاقة أنقرة بالنظام السوري السابق بالشد والجذب، والتي حالت دون الشروع في التقارب فعليًا بين تركيا وسوريا، كما ترغب أنقرة في إنشاء منطقة عازلة داخل الأراضي السورية من أجل شن عمليات عسكرية للقضاء على قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، أما على الجانب الأوروبي، فمن الواضح أنه يرغب في التخلص من أعباء اللاجئين السوريين ومواجهة حركة النزوح الكبيرة من لبنان وسوريا بسبب تداعيات الحرب الإسرائيلية في الشرق الأوسط التي شكلت موجات جديدة من اللجوء إلى أوروبا.
المستقبل المنظور:
من المتوقع خلال الفترة المقبلة أن تسعى روسيا لاستمرار اتباع نهج تجنب الاحتكاك بالفصائل المسلحة وتحسين علاقاتها مع الإدارة السورية الجديدة من أجل الحفاظ على موطئ قدم لها في الشرق الأوسط الذي يعتمد على استمرار وجود قواعدها العسكرية في سوريا، واتضح ذلك مؤخرًا مع بيان الرئيس السوري السابق “بشار الأسد” الذي أكد فيه على عدم مغادرة البلاد بشكل مخطط ولم يستطع الأسد نشره عبر وسائل الاعلام الروسية والاكتفاء بنشره عبر مواقع التواصل الاجتماعي فقط، أما بالنسبة للتحركات الأمريكية، فيبدو أن إدارة بايدن الحالية تسعي لتصدر المشهد في سوريا بعد سقوط النظام، من خلال توصلها لاتفاق وقف إطلاق النار في منبج بين قسد وفصائل الجيش الوطني السوري، وكذا تأكيدها على الدعم الكامل لعملية التحول السياسي شريطة أن يتم بشكل تعددي وشامل، وأخيرًا قراراتها المرتقبة بشأن إزالة هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب.
وبالنسبة لإدارة الرئيس المنتخب ترامب، فمن المتوقع أن تشكل عودة تنظيم داعش هاجسًا لها، وكذلك أمن إسرائيل، بما قد يؤدي لتراجعها عن قرار الانسحاب الأمريكي الكامل من سوريا ولجوئها إلى استراتيجيات عسكرية محدودة تتمثل في تنفيذ ضربات جوية – في حال ظهور تهديدات – مثلما حدث خلال ولايته الأولى في أعوام 2017 و2018، وبالنسبة للتحركات التركية، فإنه من المتوقع أن توسع أنقرة من تحركاتها الداعمة للنظام السوري الجديد، وكذلك تعزيز وجودها في الشمال السوري من أجل المنطقة الآمنة التي تسعي إليها، بالإضافة إلى تكثيف ضرباتها وغاراتها الجوية ضد تنظيم قسد.
كما يُتوقع أن تستمر الدول الأوروبية في نهجها الإيجابي تجاه الإدارة الجديدة في سوريا، والذي قد ينتج عنه بعض الخطوات، لعل أبرزها ما يتعلق بإعادة بعض الدول الأوروبية لعمل سفاراتها من أجل البدء في خطوات التطبيع مع الإدارة السورية الجديدة، وإزالة بعض العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على سوريا، فضلًا عن إمكانية إرسال بعض المساعدات والمنح لدمشق من أجل تسريع عمليات إعادة الإعمار خلال الفترة المقبلة.
وإجمالًا، يمكن القول إنه من الواضح أن الانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية وتقليص عملياتها في سوريا، وكذا انشغال إيران بالتصعيد مع إسرائيل، قد أديا لحالة فراغ سعت من خلاله المعارضة المسلحة إلى تسريع تحركاتها لتحقيق بعض الضغوط العسكرية على النظام السوري بما أدى في النهاية إلى سقوطه، ومن المرجح أن تكون النجاحات التي حققتها المعارضة المسلحة قد أفضت إلى اتفاق بين روسيا والولايات المتحدة، يقوم على إنهاء وحل الأزمة الأوكرانية في مقابل المضي قدمًا نحو عملية سياسية جديدة في سوريا، برعاية أممية، تتضمن إعداد دستور جديد، ثم إنشاء أحزاب سياسية جديدة، وأخيرًا إجراء انتخابات رئاسية.