شهدت الفترة الأخيرة تصاعدًا في التنافس بمجال الذكاء الاصطناعي بين الصين والولايات المتحدة، خاصةً بعد إطلاق شركة صينية تطبيق “DeepSeek” الذي يعد منافساً قويًا لأبرز تطبيقات الذكاء الاصطناعي الأمريكية، مما انعكس سلبيًا على أسهم شركات التكنولوجيا الأمريكية، وامتد تأثير المنافسة إلى العديد من الدول التي اتخذت خطوات لحجب استخدام ذلك التطبيق لأسباب أمنية، فضلًا عن ظهور مبادرات أوروبية جديدة تهدف إلى تعزيز الذكاء الاصطناعي في أوروبا.
تحركات صينية موجهة:
أعلنت شركة DeepSeek ومقرها مدينة “هانج شو” الصينية – تأُسست عام 2023 – عن إطلاق نموذج صيني جديد للذكاء الاصطناعي في 20 يناير 2025، بمميزات تمثلت في كونه أقل تكلفة لما يصل 50 مرة من بعض النماذج الأمريكية، حيث أنفقت الصين على شركة DeepSeek نحو 5,6 مليون دولار مقارنة بالإنفاق على ChatGPT بحوالي مئات المليارات[1]، كما يعد التطبيق الصيني أقل تكلفة من نماذج “جوجل” و “ميتا”، ويتسم أيضًا بكونه مفتوح المصدر (أي يمكن لأي شخص استخدامه ومشاركته مجانًا وتطويره)، بخلاف منافسه ChatGPT الذي يعد مغلق المصدر[2].
ChatGPT | DeepSeek | |
المنشأ | الولايات المتحدة | الصين |
تكلفة الاستخدام | نسخة مجانية محدودة، النسخة المتميزة منه تتطلب اشتراكًا قدره 20 دولار شهريًا | مجانية حتى الوقت الحالي |
تكلفة الإصدار | مليارات الدولارات | 5.6 مليون دولار |
المصدر | مغلق المصدر | مفتوح المصدر |
التفكير والعرض | يعرض النتائج النهائية دون الكشف عن تسلسل الأفكار | يقدم تسلسل الأفكار بطريقة مشابهة لتفكير الإنسان، ويتفوق في الفهم والشرح المنطقي |
وقد سارعت شركات صينية في مطلع شهر فبراير الجاري – سواء كانت الشركات المصنعة للرقائق أو مقدمة الخدمات السحابية – إلى تبني ودعم نماذج الذكاء الاصطناعي لشركة DeepSeek.
تحركات غربية مقابلة:
أعلنت أكثر من 60 شركة كبيرة في 10 فبراير الجاري، على هامش قمة باريس، إطلاق تحالف يهدف إلى جعل أوروبا رائدة عالميًا في مجال الذكاء الاصطناعي، وتبسيط الإطار التنظيمي الأوروبي، وتضم المبادرة مجموعات صناعية كبيرة منها “إيرباص” و”مرسيدس” و”سيمنز”، ومجموعات تكنولوجية منها “سبوتيفاي” و”ميسترال للذكاء الاصطناعي”، كما أعلنت فرنسا اعتزامها استثمار 113 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي [3].
فيما كشف الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في يناير 2025 عن مشروع “ستار جيت”، وهو مشروع يوفر استثمارات خاصة تصل إلى 500 مليار دولار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي لمراكز البيانات في تكساس وخارجها، إلى جانب 100 ألف وظيفة جديدة.
لم تقف المنافسة على ضخ استثمارات أو تحديث تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بل اتجهت لحجب استخدام بعض التطبيقات، حيث حظرت أستراليا وتايوان استخدام الأجهزة الحكومية لتطبيق DeepSeek بسبب مخاوف أمنية من استخدام التطبيق، وانضمت كوريا الجنوبية إلى هذا المسار، حيث منعت موظفيها مؤقتًا من الوصول إلى التطبيق الصيني[4]، كما كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن ولاية نيويورك حظرت استخدام مؤسساتها الحكومية تطبيق DeepSeek، وقد سبق ذلك إصدار حاكم ولاية تكساس الأمريكية، أمرًا بحظر تطبيق DeepSeek من الأجهزة التي تستخدمها الحكومة، لتصبح أول ولاية تحظر التطبيقات الصينية[5].
ويعد تطبيق DeepSeek استكمالًا لسلسلة الصراع التكنولوجي بين الصين والولايات المتحدة، وجاء كرد فعلي قوي على تعليق الشركة التايوانية لصناعة أشباه الموصلات (TSMC)، تصدير الرقائق الإلكترونية المتطورة إلى الصين في نوفمبر 2024، استجابةً لتوجيهات أمريكية، ولا يُستبعد أن تتوسع الولايات المتحدة في فرض المزيد من الإجراءات الهادفة للحد من توسع بعض الدول في بعض القطاعات موضع المنافسة للولايات المتحدة، ويدعم ذلك دعوة شركة “OpenAI” الأمريكية المالكة لتطبيق ChatGPT، إلى اتخاذ تدابير أمنية مع السلطات الأمريكية، بعدما اتهمت شركة DeepSeek في 29 يناير 2025، بمحاولة نسخ نموذجها للذكاء الاصطناعي.
أبعاد التنافس:
جاء إصدار تطبيق ChatGPT المعتمد على نموذج Open AI، ليعزز التنافس الشديد بمجال الذكاء الاصطناعي خلال الفترة الأخيرة، حيث أدى إلى حدوث تدافع بين الشركات الصينية التي سارعت في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها وصولًا إلى إطلاق نموذج DeepSeek الذي يتفوق على تطبيق ChatGPT في بعض الأمور.
ويكمن الهدف الضمني في إنشاء التطبيق الصيني في كونه يفرض رقابة على الردود حول موضوعات صينية شديدة الحساسية، فعلى سبيل المثال تعد شخصية “ويني ذا بوه” الكرتونية بمثابة السخرية أو انتقاد بعض المسئولين الصينيين رفيعي المستوى، وقد نجح تطبيق ChatGPT، في فهم هذه الفكرة موضحًا في إجاباته أنها اعتبرت رمزًا للسخرية السياسية والمقاومة الصينية، وعلى النقيض الأخر عند توجيه بعض التساؤلات في نفس الإطار لتطبيق DeepSeek، فإنه لا يعطي إجابات واضحة أو يمتنع عن الرد في أحيان أخرى، ويتضح ذلك عند سؤال التطبيق “ماذا حدث في 4 يونيو 1989؟” وهو تاريخ احتجاجات ميدان تيانانمن، مفسرًا أن ذلك خارج حدود إمكانات التطبيق داعيًا إلى الحديث عن شيء أخر.

يوضح ما سبق التوظيف السياسي لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والذي يمكن استخدامه لإبراز بعض الانتقادات أو السلبيات في بعض الدول، أو حجبها عن مستخدمي التطبيق، وهو ما يعني أن النخب السياسية الحاكمة قد تتجه خلال السنوات المقبلة لزيادة الاعتماد عليه في إبراز أو إخفاء بعض الحقائق، كذا يمكن استغلاله في الابتزاز، مثل طلب أموال أو لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية.
يُذكر مواجهة بعض المستخدمين تحديات عند تحميل التطبيق الصيني الجديد، فلا يزال يستغرق وقتًا أطول في التحميل أو الرد على التساؤلات، وهذا يفتح مجالًا للقول بأن التطبيق الصيني في حاجة إلى تمويل أكبر لتطويره، وحتى إن أبدت الشركات المحلية والمستثمرين الصينيين رغبتهم في تبني ودعم نماذج الذكاء الاصطناعي لشركة DeepSeek فإن ذلك يعد تحديًا جوهريًا للصين عند المقارنة بقيمة 500 مليار دولار تعتزم واشنطن استثمارها في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، كما أن ChatGPT ما يزال يمتلك حضورًا قويًا على المستوى العالمي، لاسيما مع قدرته على التكيف مع ثقافات متعددة، بينما قد يواجه DeepSeek صعوبة في تقديم نفس المستوى من التكيّف عالميًا ويكتفي بتلبية الاحتياجات الوطنية الصينية والمحافظة على أمنها القومي، الأمر الذي قد يجعل التطبيق الصيني مناسبًا وعمليًا للمستخدمين داخل الصين فقط في الوقت الراهن.
انعكاسات مباشرة:
تسبب التطبيق الصيني في الأسبوع الأول من إطلاقه في زعزعة استقرار أسهم شركات التكنولوجيا الأمريكية والتي تشكل نحو 45% من مؤشر S&P 500 الأمريكي للاستثمار، بما أدى إلى تسجيل أسهم شركات التكنولوجيا خسائر كبيرة، حيث تراجع ما يقرب من تريليون دولار من قيمة أسهم شركات التكنولوجيا الأمريكية والأوروبية في 27 يناير 2025، كما مُنيت شركة Nvidia، الرائدة في مجال تطوير الشرائح الرئيسية للذكاء الاصطناعي، أكبر خسارة لشركة في تاريخ الأسهم الأمريكية، حيث شهدت انخفاضًا كبيرًا بنحو 17%، أي نحو 600 مليار دولار من قيمتها السوقية في 27 يناير 2025.
وختامًا، قد تشهد الفترة القادمة اشتداد حدة المنافسة التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة، وانضمام أوروبا إلى هذا التنافس، وذلك بالتزامن مع التزايد المحتمل في الحرب التجارية الدائرة بين الصين والولايات المتحدة، لاسيما بعدما تولي الرئيس دونالد ترامب ولايته الثانية، وقراراته المتشددة المتعلقة بفرض تعريفات جمركية على واردات الصين، فضلًا عن التهديد بفرض رسوم جمركية 100% على دول “بريكس” في حال سعيها لإنشاء عملة بديلة للدولار، والتي تعد الصين عنصرًا مهمًا في تلك المجموعة.
[1] “ترامب يطلق مشروع “ستارغيت” للذكاء الاصطناعي بقيمة 500 مليار دولار”، فرانس 24، 22 يناير 2025، متاح على https://tinyurl.com/3wde632k
[2] Eduardo Baptista, “What is DeepSeek and why is it disrupting the AI sector?”, Reuters. 28 January 2025. Available at https://www.reuters.com/technology/artificial-intelligence/what-is-deepseek-why-is-it-disrupting-ai-sector-2025-01-27/
[3] Mike Butcher, “Tech giants and startups join forces to call for simpler EU rules on AI, data”, Techcrunch. 10 February 2025. Available at https://techcrunch.com/2025/02/10/tech-giants-and-startups-join-forces-to-call-for-simpler-eu-rules-on-ai-data/?utm_source=chatgpt.com
[4] Hyunjoo Jin, “South Korean ministries block DeepSeek on security concerns, officials say”, Reuters. 6 February 2025. Available at https://www.reuters.com/technology/artificial-intelligence/south-koreas-industry-ministry-temporarily-bans-access-deepseek-security-2025-02-05/
[5] James Rundle, “New York State Bans DeepSeek From Government Devices”, WSJ. 10 February 2025. Available at https://www.wsj.com/articles/new-york-state-bans-deepseek-from-government-devices-de7a9df4?utm_source=chatgpt.com