أصدرت مؤسسة “براند فايننس” تقريرها السنوي السادس لمؤشر القوة الناعمة العالمي[1]، والذي يتناول جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، من خلال مسح عالمي اعتمد على رأي أكثر من 170 ألف شخص، وذلك عن طريق ثلاثة مؤشرات أداء رئيسية، (تتمثل في: الألفة والسمعة والتأثير)، وثماني ركائز أساسية، وبشكلٍ عام، يقيس التقرير ما تحرزه الدول عبر 55 مؤشرًا مختلفًا[2]، وقد أظهر التقرير إحراز مصر تقدمًا في مؤشر القوة الناعمة، حيث احتلت المركز 38 عالميًا.
تباين واضح:
جاءت الولايات المتحدة في المركز الأول للمرة الرابعة على التوالي، حيث سجلت 79.5 من 100 نقطة، وقد تصدرت المركز الأول في مؤشري “الألفة” و”التأثير”، كما احتلت المرتبة الأولى في الركائز التي يتضمنها المؤشر، وهم: “العلاقات الدولية” و”التعليم والعلوم” و”الإعلام والاتصالات”، وعلى الرغم من تصدرها تلك المجالات والركائز، فإن الترتيب العام للبلاد في حالة من الثبات النسبي، وقد تراجعت سمعة الولايات المتحد وهبطت أربعة مراكز لتحتل المرتبة الخامسة عشر، كما انخفضت ركائز “الحوكمة” و”الأشخاص والقيم”، وهو ما أرجعه التقرير إلى التوترات السياسية الداخلية والطبيعة الاستقطابية للحملات الرئاسية خلال فترة الانتخابات، كما أشار التقرير إلى أن الصورة العالمية للولايات المتحدة قد تواجه تحولات في السنوات القادمة واحتمال زيادة عدم القدرة على التنبؤ بهيمنتها على مؤشر القوة الناعمة مع عودة الرئيس “دونالد ترامب” للحكم.
في المقابل، احتلت الصين المركز الثاني بمجموع نقاط بلغ 72.8 نقطة، لتحل محل المملكة المتحدة للمرة الأولى، وأرجع التقرير ذلك إلى التقدم في الجهود الصينية لتعزيز صورتها العالمية عن طريق مشروعات البنية التحتية لمبادرة الحزام والطريق، وتعزيز تركيزها على التنمية المستدامة، والعلامات التجارية لمنتجاتها، وإعادة فتح البلاد للزوار بعد جائحة كورونا، فيما أكد التقرير على تحسن وضع الصين في 24 مؤشرًا، فضلًا عن معالجتها لنقاط ضعفها وبالأخص ركيزة “الأشخاص والقيم” حيث ارتفعت 18 مرتبة هذا العام، فيما احتلت الصين المرتبة ذاتها من العام الماضي في مؤشر السمعة وهي 27 نقطة، وبالتالي فإن تعزيز جاذبيتها الثقافية وتنمية عنصرها البشري وإدراكهم الاجتماعي قد يسهم في تعزيز وبناء سمعتها الدولية.
وقد تراجعت المملكة المتحدة إلى المركز الثالث بعد أن كانت تحتل المركز الثاني في مؤشر عام 2024، وهو ما يعكس حالة من الركود في تصورات علامتها التجارية الوطنية، كما أشار التقرير إلى أن الافتقار إلى تحقيق تحسن واضح في الركائز الأساسية – خاصةً “الأعمال والتجارة” التي تراجعت مرتبة لتصبح في المرتبة السادسة وتراجع ركيزة “الحوكمة” للمرتبة الثالثة – يسلط الضوء على الحاجة إلى أهمية تنشيط المملكة المتحدة لجهودها في هذا الصدد، وتبنيها سياسات أكثر وضوحًا واتساقًا بشأن القضايا العالمية.
موقف الدول العربية:
احتلت الإمارات المركز الأول عربيًا، محافظة على مركزها العاشر عالميًا للسنة الثالثة على التوالي، ولكن بزيادة طفيفة في درجاتها حيث ارتفعت إلى 60.4 نقطة مقارنةً بتحقيقها 59.7 نقطة في العام الماضي، كما احتلت الإمارات المرتبة الثانية عالميًا من حيث “سهولة ممارسة الأعمال فيها ومعها” مما يعكس سياساتها الداعمة للأعمال، كما تحتل المرتبة العاشرة فيما يتعلق بـ”إمكانات النمو المستقبلي” و”الاقتصاد القوي والمستقر”، وحافظت سلطنة عمان للسنة الثانية على التوالي على المركز 49، وهو نفس الأمر بالنسبة للبحرين، التي حافظت على وضعها في المركز 51.
وفي المقابل، تراجعت باقي دول الخليج العربي، حيث تراجعت السعودية (والتي تحتل المركز الثاني عربيًا) مركزين حيث احتلت المركز 20 في مؤشر عام 2025، بينما كانت تحتل العام الماضي المركز 18، وتراجعت قطر (التي تحتل المركز الثالث عربيًا) مركزًا واحدًا حيث جاءت في المركز 22 بينما كانت في المركز 21 العام الماضي، كما تراجعت الكويت إلى المركز 40 بينما كانت في المركز 37 في العام الماضي.
وجدير بالذكر أن إسرائيل قد شهدت تراجعًا، حيث احتلت المركز 33 عالميًا في مؤشر 2025 بينما كانت تحتل المركز 32 في العام الماضي، وشهدت انخفاضًا حادًا في تقييمها في مؤشر “السمعة” بمقدار 42 مركزًا، لتحتل المركز 121، وهو ما يعني أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ما يزال يؤثر بشكل كبير على التصورات العالمية تجاه إسرائيل، كما يعكس التأثير السلبي للحروب على القوة الناعمة للدول.
تقدم مصري:
احتلت مصر المركز 38 عالميًا مرتفعة بذلك مركزًا مقارنة بنسخة عام 2024 والتي احتلت فيها المركز 39، وتحتل مصر المركز الأول إفريقيًا، والرابع عربيًا، وحصلت على 7.7 من 10 نقاط في مؤشر “الألفة”، كما حصلت على 6.2 من 10 نقاط في مؤشر “السمعة”، كما حافظت مصر على ميداليتها الذهبية في “التراث الغني” لأكثر من عام، الأمر الذي يؤكد على تحقيقها أداءً استثنائيًا.
ويرجع تقدم مصر في مؤشر القوة الناعمة العالمي في نسخته السادسة إلى سعي مصر نحو تعزيز قوتها الناعمة من خلال عدد من الإجراءات التي اتخذتها خلال السنوات الأخيرة في العديد من المجالات، أبرزها: تعزيز الدبلوماسية الثقافية التي تعتمد على تبادل المعلومات، والترويج للفنون والثقافة بين الدول، وإحياء المهرجات السينمائية والموسيقية، وعودة ما تم تأجيله منها، مثل “مهرجان الموسيقى العربية” الذي تم إلغاء نسخته في عام 2023، وتنظيم المعارض الفنية المشتركة مع دول أخرى مثل “معرض تراثنا” الذي تُنظمه مصر، يُضاف إلى ذلك التوسع في انتاج محتوى سينمائي ودرامي يهدف إلى ترسيخ القيم الإيجابية في المجتمع وأهمها قيم المواطنة، وتطوير المواقع الأثرية والاستعداد والترويج لافتتاح المتحف المصري الكبير، فضلًا عن تطوير قطاع السياحة.
كما أسهم الاهتمام المصري بتطوير مجال التعليم في تعزيز قوتها الناعمة، حيث افتتحت مصر عددًا من الجامعات الجديدة، ومنها فروع لجامعات أجنبية في العاصمة الإدارية الجديدة، كما قدمت مصر منحًا للطلاب الأفارقة والعرب للدراسة في جامعاتها، وأنشأت العديد من المنصات التعليمية الرقمية، مما عزز سمعتها كمركز تعليمي، بالإضافة إلى تطويرها لصناعة البرمجيات والذكاء الاصطناعي بما حسن من الخدمات الحكومية وجذب الاستثمارات التكنولوجية العالمية للاستثمار في مصر.
كما يرجع تحسن ترتيب مصر إلى تطوير وتعزيز دور الأزهر الشريف ومؤسساته في تقديم صورة معتدلة عن الإسلام في العالم وجعله وجهة للدارسين من الدول الإسلامية العربية والأجنبية، وكذلك تعزيز دور الكنيسة المصرية، وتوسع دور الإعلام المصري خارجيًا، عبر إطلاق منصات إعلامية ناطقة باللغة الإنجليزية، وكذلك المنصات الرقمية التابعة للهيئة العامة للاستعلامات، مما أسهم في نهاية المطاف في تحسن صورة وسمعة مصر.
وختامًا، يمكن القول إن مصر قد نجحت في تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، ورسخت صورتها كدولة حديثة تجمع بين التاريخ والتراث والتقدم الذي يجعلها تواكب العالم، وذلك من خلال اختيارها الاعتماد على تعزيز أدواتها الدبلوماسية وقوتها الناعمة، بدلًا من القوة الصلبة في إدارة سياساتها الخارجية، وسط سياق إقليمي معقد ومأزوم.
[1] Global Soft Power Index 2025. Available at https://static.brandirectory.com/reports/brand-finance-soft-power-index-2025-digital.pdf
براند فاينانس: هي هيئة استشارية رائدة في مجال تقييم العلامات التجارية المستقلة على مستوى العالم، وتُجري تقييمًا دوريًا لقوة العلامات التجارية وتحدد قيمتها المالية لمساعدة المؤسسات بجميع أنواعها على اتخاذ قرارات استراتيجية، وتقوم الهيئة أيضًا بإجراء تقييم سنوي لأكثر من 50000 علامة تجارية، وتنشر أكثر من 100 تقرير لتصنيف العلامات التجارية في جميع القطاعات والدول.
[2] أحمد عقل، “الولايات المتحدة تتصدر.. ما مراتب الدول العربية في مؤشر “القوة الناعمة”؟”، الحرة. 21 فبراير 2025. متاح على https://tinyurl.com/5yu538dd