Search

رؤى بحثية: مستقبل الأزمة بين الجزائر ومالي

06/05/2025

وصلت الأزمة الراهنة بين الجزائر ومالي إلى مرحلة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بينهما، برغم تعدد الخلافات بين الجانبين على مدار السنوات الماضية، والتي تلت تغير نظام الحكم في مالي، حيث أدانت الأخيرة – وللمرة الأولى – الجزائر بزعم ممارستها العمل العدائي العسكري المتعمد، وذلك في أعقاب إسقاط الجيش الجزائري لطائرة مُسيرة مالية، بل وامتدت لغة الخطاب المالي إلى أبعد من ذلك واصفةً الجزائر بأنها “ترعى الإرهاب الدولي”، فيما أشارت الأخيرة إلى أن الطائرة المُسيرة المالية اتخذت “مسارًا هجوميًا”، وأنها ثالث مُسيرة مالية تتوغل في الأراضي الجزائرية منذ أغسطس 2024، الأمر الذي أعقبه عددًا من ردود الأفعال، منها تبادل غلق المجال الجوي بين الدولتين، وتوجيه كل من البلدين إحاطة إلى مجلس الأمن الدولي تتباين فيها الروايات حول الواقعة.

وقد اهتمت مراكز الأبحاث الأجنبية بأسباب ومجريات الأزمة بين الجزائر ومالي، وسبل إنهائها، حيث نشر معهد الدراسات الأمنية (ISS) تقريرًا[1] حول الأزمة الدبلوماسية بين الجزائر، ودعوة الاتحاد الإفريقي إلى ممارسة دور الوسيط بين الجزائر وتحالف دول الساحل المكون من مالي، النيجر، وبوركينافاسو، كما نشرت مجموعة الأزمات الدولية تحليلًا[2] بعنوان الجزائر – مالي: نزع فتيل التصعيد الخطير، وذلك بهدف تقييم مخاطر التصعيد بين الجزائر ومالي، كما نشر منتدى الشرق الأوسط، مقالًا[3] بعنوان الجزائر ومالي: صدع خطير في قلب منطقة الساحل.

أبعاد الأزمة:

حذرت المراكز البحثية الأجنبية من مآلات الأزمة بين الجزائر ومالي بالنظر للأبعاد الإقليمية لهذه الأزمة، في ظل التحالف السياسي والدبلوماسي والعسكري الذي شكله تحالف دول الساحل (النيجر وبوركينا فاسو ومالي)، حيث أدان التحالف ما أقدمت عليه الجزائر، ووصفه بأنه “عمل عدائي” موجه إلى جميع دول الساحل، فيما رفضت الجزائر هذه الاتهامات، وتضامنت النيجر وبوركينا فاسو مع مالي من خلال استدعاء سفيريهما من الجزائر مثلما فعلت مالي، كما انسحبت مالي والنيجر من “هيئة الأركان المشتركة” التي جمعتهما مع الجيشين الجزائري والموريتاني، وتمثل إطارًا للتنسيق الأمني بين أعضائها.

فيما تعد الجزائر ومالي – قبل الأزمة الراهنة – ركيزتين للاستقرار في منطقة الساحل، لكن تباعدت رؤيتهما في السنوات الأخيرة، وانفصلت تصوراتهما حيال سبل إعادة الاستقرار في منطقة شمال مالي التي تنتشر فيها التنظيمات الإرهابية وجماعات “الطوارق” المعارضة لنظام الحكم المركزي في مالي، حيث تعترض السلطات المالية على تواصل الجزائر مع قادة الطوارق ورجال الدين المعارضين للنظام المالي مثل “محمود ديكو” وتعده تدخلًا أجنبيًا، في حين ترى الجزائر أن ذلك الأمر هو ضرورة لاستعادة محادثات السلام بين المعارضة والنظام المالي، هذا بخلاف تصورها السلبي لاستراتيجية مالي العسكرية وما تتلقاه من دعم أمني روسي، من منطلق أن ذلك يشكل تهديدًا مباشرًا للتوازن الإقليمي.

التداعيات المحتملة:

تقف منطقة الساحل عند نقطة تحول، حيث تتآكل فيها مقومات الحوكمة، لاسيما بعد انسحاب القوات الفرنسية وإعادة تموضع القوات الأمريكية بالمنطقة، وتشكيل تحالف دول الساحل بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وتدفق النفوذ الروسي والتركي، الأمر الذي أدى لتعطيل الأطر الأمنية التقليدية للدول الغربية في هذه المنطقة.

كما أن الأزمة بين الجزائر ومالي إنما قد تعني نهاية تبادل المعلومات الاستخباراتية والتنسيق الأمني عبر الحدود بما قد يفتح الباب أمام تحركات أو حسابات خاطئة عبر الحدود، لا سيما مع تزايد استخدام مالي للطائرات بدون طيار والعمليات العسكرية في الشمال، كما قد يؤدي غياب التنسيق بين البلدين إلى إضعاف القدرة الإقليمية على مكافحة الإرهاب في الوقت الذي تنشط فيه جماعات مثل “جماعة نصرة الإسلام” وتنظيم “داعش” بمنطقة الساحل.

إن خطر نشوب صراع مسلح على وقع الأزمة، يبدو ضئيلًا في هذه المرحلة في ظل القدرات العسكرية المتقدمة للجزائر في المنطقة مقارنةً بمجمموعة دول الساحل، لكن قد تؤدي التوترات بينهم إلى زعزعة استقرار مناطق المغرب العربي وغرب إفريقيا التي أضعفتها بالفعل الحرب الأهلية في ليبيا وانعدام الأمن في البلدان المجاورة، وإذا ما استمرت التوترات الدبلوماسية بين الجزائر ومالي، وفي ظل غياب التنسيق والحوار بينهما، فلا يمكن استبعاد التهديد بالتصعيد العسكري بين الطرفين، خاصةً مع استمرار استخدام الجيش المالي للطائرات بدون طيار في ملاحقة الجماعات المسلحة المعارضة والجماعات الإرهابية في شمال مالي، الأمر الذي  قد يؤدي إلى حوادث جديدة واحتمالات أن تتسبب في إصابات بين المدنيين أو العسكريين من الجانبين.

ويهدد تدهور العلاقات بين مالي والجزائر، إلى تراجع فرص استئناف الحوار بين السلطات المالية و”جبهة تحرير الأزواد”، مما يُقلص فرص إعادة الاستقرار في مالي، فمن المتوقع تزايد الإدراك لدى الجماعات المعارضة أنه قد تم التخلي عنهم من قبل كل من الجزائر والحكومة المركزية في مالي، مما يجعلها تلجأ إلى المواجهة المفتوحة ضد النظام أو يكون تحالفهم هو الخيار التالي مع الجماعات الإرهابية أو اللجوء إلى تكتيكات منها استخدام العبوات الناسفة ضد المدنيين.

دور إفريقي:

اتفقت الآراء على أهمية أن يكون للاتحاد الإفريقي دورًا في إنهاء الأزمة بين الجزائر ومالي وتحالف دول الساحل، وذلك بالنظر إلى الاعتبارات العوامل التالية:

  • أن التوترات بين الجزائر وتحالف دول الساحل فرصة لاستعادة نفوذ الاتحاد الإفريقي في منطقة الساحل والصحراء، ويمنح قادة مفوضية الاتحاد الإفريقي المنتخبين حديثًا فرصة للتوسط واستعادة مكانة المنظمة نظرًا لأهمية المنطقة في أمن القارة الإفريقية، فالرئيس الجديد لمفوضية الاتحاد الإفريقي “محمود علي يوسف” لديه العديد من الاتصالات في الأوساط الدبلوماسية الإفريقية، نظرًا لعمله الممتد على رأس وزارة الخارجية الجيبوتية.
  • أن انسحاب دول الساحل من الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في يناير 2025 يعني أن هذا التكتل الإقليمي بات يفتقر إلى المكانة القانونية والشرعية للتوسط في الأزمة الجزائرية المالية، وهذا يشكل تحديًا لهيكل السلم والأمن في الاتحاد الإفريقي.
  • يجب على الاتحاد الإفريقي استخدام القنوات المناسبة لإعادة الحوار بين الجزائر وتحالف دول الساحل وتمهيد الطريق لعودة العلاقات البناءة بينهم مرة أخرى (كأن يقوم رئيس أنجولا “جواو لورنسو” بصفته رئيسًا للاتحاد الإفريقي، بتعيين شخصية رفيعة المستوى للقيام بهذه المهمة)، وينبغي أن يركز مجلس السلم والأمن الإفريقي على قضية شمال مالي، التي هي أصل النزاع بين الجانبين، مع أهمية إعادة إطلاق الجهود القارية لمكافحة الإرهاب.
  • وجود العديد من الاعتبارات والعوامل المساعدة والموازية التي تدعم دور الاتحاد الإفريقي في إنهاء الأزمة، مثل قيام جنوب إفريقيا بتهيئة ظروف أكثر ملاءمة للحوار في ضوء علاقاتها المتوازنة مع كل من الجزائر ومالي، كما يمكن أن تساعد موريتانيا في الجهود الإفريقية، لا سيما أنها عضو في هيئة الأركان المشتركة، وتتمتع بعلاقات ودية بتحالف دول الساحل وتشاد، وإمكانية أن تلعب بعض القوى الإقليمية والدولية دور الوساطة، وإضفاء المزيد من المصداقية على الجهود الإفريقية للتهدئة بين الجزائر ومالي.

وختامًا، يمكن القول إن تصعيد الأزمة بين الجزائر ومالي ليس في صالح أي من البلدين، لأنهما دولتا جوار تجمعهما علاقات تاريخية على مختلف الأصعدة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وحدود برية طويلة ومتداخلة، تُحتم عليهما تجاوز هذه الأزمة لأغراض مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة النشطة ما بين مناطق المغرب العربي وغرب إفريقيا، وتبدو الأزمة مهددة بالاستمرار حال تنافرت وتضادت التحركات الإقليمية والدولية داخل منطقة الساحل والصحراء، إذ أن الدور الخارجي في جهود تسوية الأزمات السياسية عامةً قد يكون عاملًا غير مضمون النتائج لأنه لا يخرج عن دائرة التنافس داخل القارة الإفريقية، وهو الأمر الذي يستدعي تزايد أهمية الدور الإفريقي في حل هذه الأزمة، خاصةً أن تغيير القيادات داخل هياكل الاتحاد الإفريقي يُشكل توجهًا لإثبات مدى تمكن هذه القيادات المنتخبة من وضع رؤية جديدة لآليات تسوية النزاعات في العديد من المناطق الإفريقية.


[1] Hassane Koné, Fahiraman Rodrigue Koné and Djiby Sow, “Algeria-AES diplomatic crisis calls for swift African Union mediation”, Institute for Security Studies (ISS). 28 April 2025. Available at: https://n9.cl/cudpb

[2] “Algeria-Mali: Defusing a Dangerous Escalation”, Crisis Group. 18 April 2025. Available at: https://n9.cl/q0pewy

[3] Amine Ayoub, “Algeria and Mali: A Dangerous Rift at the Heart of the Sahel”, Middle East Forum. 19 April 2025. Available at: https://2u.pw/0pj8m

1 (2)
ما وراء زيارة الرئيس الأمريكي لدول الخليج؟
rebgaza
الجهود الإسرائيلية لفرض الهجرة الطوعية
rebgaza
دور التخطيط فى إعادة إعمار المدن باستخدام الذكاء الاصطناعي (قطاع غزة – نموذج)
Reb1
تجارب إعادة الإعمار في أعقاب الصراعات المسلَّحة والحروب الأهلية
Scroll to Top