قامت الحكومة الأمريكية بخفض التمويل المخصص للأنشطة البحثية في عدد من الجامعات الأمريكية، وبدأت تحقيقات مع عدد من المؤسسات التي تم اتهامها بالتساهل مع السلوكيات المعادية للسامية، كما طالبت بإجراء تغييرات في السياسات الجامعية المتعلقة بالعرق والنوع الاجتماعي، وعلى الرغم من إبرام عدد من المؤسسات التعليمية لتسويات مع الإدارة الأمريكية، فقد استمرت حالة التجاذبات بين الرئيس “ترامب” وجامعة هارفارد.
طبيعة التجاذبات:
أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن إجراء تحقيق بشأن ما إذا كانت جامعة هارفارد ستستمر في المشاركة في البرنامج الحكومي المعني بمنح التأشيرات الأمريكية للطلاب والباحثين من دول أخرى “برنامج الزائرين للتبادل الثقافي”، الذي يتيح لمواطنين أجانب الدراسة أو العمل في الولايات المتحدة ضمن برامج تعليمية وثقافية، حيث واجهت جامعة هارفارد سلسلة من الضغوط المتزايدة من الإدارة الأمريكية نتيجة رفضها لتلبية مطالب فريق العمل الفيدرالي المعني بمكافحة معاداة السامية.
لم يوضح البيان الصادر عن وزارة الخارجية الأسباب التي دفعت الإدارة الأمريكية لتضمين جامعة هارفارد في هذا التحقيق، إلا أنه أشار إلى أن كافة الكيانات والمؤسسات التعليمية التي تتولى رعاية هذا البرنامج مطالبة بالامتثال الكامل للوائح البرنامج، والشفافية في تقديم التقارير لوزارة الخارجية، وإظهار التزام واضح بتعزيز مبادئ التبادل الثقافي والتفاهم المتبادل التي تأسس عليها البرنامج[1].
انتقدت جامعة هارفارد هذا القرار، ووصف المتحدث باسم الجامعة “جايسون نيوتن” التحقيق بأنه “خطوة انتقامية أخرى” من قبل الإدارة الأمريكية، مما دفع إدارة الجامعة إلى رفع دعوى قضائية ضد الحكومة، كما أكد على استمرار جامعة هارفارد في تسجيل ورعاية الطلاب والباحثين الدوليين، وأن الجامعة ملتزمة بالقواعد واللوائح الأساسية التي ينص عليها البرنامج، فيما نفى رئيس جامعة هارفارد “ألان إم جاربر” إمكانية التوصل إلى اتفاق مع إدارة الرئيس “ترامب”، مشيرًا إلى رفض جامعة هارفارد تقديم التسوية المالية التي طرحتها الإدارة الأمريكية، والتي تقدر بقيمة 500 مليون دولار للتغاضي عن التحقيق، كما أن الجامعة تدرس بجدية خيار حل الخلاف مع البيت الأبيض عبر المسار القضائي بدلًا من التوصل إلى تسوية تفاوضية.
تسويات موازية:
أعلنت جامعات كولومبيا، وبنسلفانيا، وبراون عن التوصل إلى تسويات مع الحكومة الفيدرالية لاستعادة التمويل الفيدرالي وإنهاء التحقيقات، حيث وافقت جامعة كولومبيا على إخضاع برامج الدراسات الإقليمية للمراجعة، وتعيين مراقب مستقل لضمان تنفيذ بنود الاتفاق، إلى جانب دفعها مبلغ 200 مليون دولار.
كما وافقت جامعة براون على التعريف الذي قدمته الإدارة الأمريكية لتحديد مفهوم النوع الاجتماعي، وقدمت بيانات ديموغرافية إضافية عن الطلاب، والتخلي عن سياسة قبول الطلاب القائمة على مراعاة الاعتبارات العرقية، فيما قامت جامعة بنسلفانيا بحذف مجموعة من الأرقام القياسية في السباحة كانت قد حققتها طالبة متحولة جنسيًا.[2]
نقاط خلافية:
أكدت جامعة هارفارد، بما في ذلك رئيسها، بشكل متكرر أنها لن توافق على أي اتفاق من شأنه أن يهدد حرية واستقلالية المؤسسات التعليمية، فيما تضمنت نقاط الخلاف الأساسية بين الإدارة الأمريكية وجامعة هارفارد تسليم سجلات التأديب الخاصة بالطلاب الأجانب إلى وزارة الأمن الداخلي، ومشاركة بيانات موسعة عن الطلاب والموظفين مع الحكومة الفيدرالية، والتخلي عن صلاحيات التوظيف الأكاديمي والقبول الطلابي، وكذلك تعيين مراقب خارجي مستقل، مع إجراء بعض التعديلات على المقررات الدراسية الخاصة بدراسات المناطق الإقليمية والشرق الأوسط والتاريخ اليهودي.
يُضاف إلى ذلك فرض إجراءات وتدابير صارمة على معاداة السامية، مع إيقاف برامج التنوع والإنصاف التي تهدف إلى تعزيز التنوع العرقي والثقافي بين الطلاب والموظفين، مع تغيير سياسات القبول بحيث يتم الحد من الاعتبارات العرقية أو الاثنية، في محاولة لمواجهة ما وصفته الحكومة بـ “التمييز العكسي”، وكذلك الإشراف على المناهج التعليمية لضمان “تنوع وجهات النظر” بما يعكس القيم الأمريكية التقليدية[3].
تجدر الإشارة إلى أن هذه التجاذبات هي جزء من توجيه أكبر يُعرف بـالــ “إرادة المحافظة على المؤسسات الأكاديمية التقليدية” (The Cathedral)، الذي يقوده عدد من السياسيين المحافظين مثل “كريس روفو” و”كورتيس يارفين”، للتقليل من تأثير الجامعات الأمريكية الكبرى مثل هارفارد على الساحة الأيديولوجية والاجتماعية، فقد أضحت الجامعات والمؤسسات التعليمية بمثابة مراكز للفكر اليساري، فيما برزت ملفات وقضايا منطقة الشرق الأوسط مثل الحرب الجارية في قطاع غزة على رأس أولويات هذه الجامعات.
الواضح أن إدارة الرئيس “ترامب” تستخدم النظام الضريبي كأداة ضغط ضد الجامعات، فمعظمها تتمتع بإعفاء من الضرائب الفيدرالية على الدخل نظرًا لاعتبارها مؤسسات خيرية تُدار لأغراض تعليمية عامة، إلا أن الإدارة تهدد حاليًا بسحب هذا الإعفاء عن هارفارد، وهو ما قد يكلفها مئات الملايين من الدولارات، ويتضح أيضًا الاعتماد على منطق الصفقات لتسوية الخلافات والقضايا الداخلية، فبمجرد إبرام الرئيس “ترامب” للتسويات مع الجامعات والمؤسسات التعليمية الأخرى، فقد أخذ يروج لهذه التسويات، وهو ما يرتبط برغبة الرئيس “ترامب” في بناء إرث سياسي وتاريخي له، يستمر حتى بعد خروجه من السلطة.
يعتمد الرئيس “ترامب” في دعمه السياسي على فئة معينة من المواطنين، المتمثلة في النخبة التقليدية أو الشعبوية، التي تعتمد على الرجل الأبيض الذي لم يحصل على التعليم الجامعي، ومن ثم فقد يستغل سلطاته لتكريس العداء تجاه الجامعات النخبوية مثل هارفارد، حيث صرح النائب الديمقراطي “بريندان بويل” بأن “الرئيس ترامب يجيد تصوير نفسه على أنه بطل الشعب العامل، رغم أنه ملياردير يعيش في رفاهية كبيرة، ومهاجمته لهارفارد تكسبه تأييدًا من جزء من قاعدته الانتخابية، لكن معظم الأمريكيين يفهمون أن هذه الخطوة ليست سوى محاولة من الحكومة للسيطرة على التعليم العالي، وهو أمر يجب أن يثير قلقنا جميعًا.”
وتكتسب التجاذبات بعدًا خارجيًا، حيث شهدت جامعة هارفارد بين عامي 2010 و2025، تدفقًا كبيرًا للاستثمارات من الصين، حيث حصلت على نحو 560 مليون دولار، وهو أكبر مبلغ تتلقاه أي جامعة أمريكية من تلك المنطقة، فيما جاء هذا التمويل من مصادر متعددة، منها متبرعون وأُسس خاصة، بالإضافة إلى عقود مع جهات حكومية مثل الجامعات.
وختامًا، يمكن الإشارة إلى أن التجاذبات بين جامعة هارفارد والحكومة الفيدرالية الأمريكية، بقيادة إدارة الرئيس “ترامب”، تمثل حالة صدام معقدة تتجاوز الأبعاد التعليمية لتعكس حالة من النزاع السياسي والأيديولوجي والثقافي، فهذه المواجهة تعكس محاولات الإدارة الأمريكية لإعادة تشكيل المشهد التعليمي في الولايات المتحدة وفقًا لأولويات محافظة/يمينية تسعى للحد من نفوذ المؤسسات الليبرالية الكبرى، تحت غطاء محاربة معاداة السامية أو تعزيز القيم الأمريكية التقليدية، كما تبرز هذه الأزمة كجزء من ديناميكية أوسع تشمل استخدام أدوات الضغط المالي والضريبي لتقويض استقلالية الجامعات، وفرض منطق الصفقات بدلًا من الحوار المؤسساتي.
[1] Joseph Gedeon, “Trump administration investigating Harvard’s visa program eligibility”, The Guardian. 23 July 2025. Available at: https://www.theguardian.com/us-news/2025/jul/23/harvard-visa-program-investigation-trump
[2] Collin Binkley and Kirk Carapezza, “Trump administration wants Harvard to pay far more than Columbia as part of settlement”, GBH. 29 July 2025. Available at: https://www.wgbh.org/news/education-news/2025-07-29/trump-administration-wants-harvard-to-pay-far-more-than-columbia-as-part-of-settlement
[3] Kanishka Singh, “Harvard to comply with Trump administration demand to turn over employment forms”, Reuters.30 July 2025. Available at: https://www.reuters.com/legal/government/harvard-comply-with-trump-administration-demand-turn-over-employment-forms-2025-07-29/