Search

مخاطر متزايدة: تراجع التمويل الخارجي لمنطقة أفريقيا جنوب الصحراء

14/09/2025

تشهد المساعدات الإنمائية الرسمية على المستوى العالمي تراجعًا ملحوظًا، وذلك في ظل تطورات عالمية تنذر بتغيير الدول والمنظمات المانحة لخطط إنفاقها على تلك المساعدات، وذلك بعد صدمات خارجية بدأت بجائحة “كوفيد-19” ولحقتها توترات جيوسياسية وحرب تجارية تشنها إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، وبالتالي سيكون لذلك تأثير على المؤسسات الأفريقية المانحة كذا دول القارة خاصة بمنطقة جنوب الصحراء، بما يطرح ضرورة التحوط من تأثير ذلك التراجع الذي سيكون له ارتدادات مباشرة على أمن واستقرار دول القارة.

تراجع التمويل:

تشير بيانات منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي الصادرة في يونيو 2025 إلى أن المساعدات الإنمائية الرسمية ODA قد شهدت تراجعًا في عام 2024 بنحو 9% على أساس سنوي، مع توقع أن يتراوح ذلك التراجع بين 9% و17% في عام 2025، وعلى أن يستمر ذلك التراجع حتى عام 2027 (على خلفية إعلان بعض أكبر الدول المانحة الاقتطاع من مساعداتها السنوية مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة)، وقُدر المبلغ الإجمالي الذي سيتم اقتطاعه بنحو 35 مليار دولار (في حالة اقتطاع 17%)، وستكون دول أفريقيا جنوب الصحراء من الدول الأكثر تأثرًا من ذلك التوجه، مع تقدير خسارتها بنحو 25% من إجمالي تلك المساعدات في عام 2025.

وفي تقديرات مماثلة، تتوقع مجموعة “ماكينزي” للاستشارات أن حجم هذه الاقتطاعات قد تتراوح بين 41 و60 مليار دولار، أي ما بين 15 إلى 22% مقارنةً بمستويات عام 2023، وقد تتزايد تلك النسبة في حالة اتجاه دول ومنظمات أخرى لخفض ميزانية إنفاقها وفق التطورات الدولية والضغوط المالية التي قد تواجهها، فمثلًا إن اتجاه دول حلف الناتو لزيادة إنفاقها الدفاعي بسبب الضغوط الأمريكية قد يدفع بعضها لتغطية تلك الزيادة عبر خفض المساعدات الرسمية الموجهة لدعم الدول الفقيرة.

بخلاف ما سبق، فإن توجه الرئيس “ترامب” لدعم الطاقة الأحفورية على حساب الطاقة المتجددة حول العالم، بما في ذلك أفريقيا، سيعرقل حصول بعض شركات الطاقة الأفريقية على التمويل بالشأن، وهو ما تجلى في توقف مبادرة “باور أفريكا” التابعة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية –بعد وقف تمويلها – والتي كانت تستهدف حصول دول القارة على طاقة غير ملوثة للبيئة، وهو ما سيكون له تداعيات مباشرة على قطاع الطاقة بأفريقيا، وكذا التنمية التي تعتمد بشكل رئيسي على توفر الطاقة.

وقد يتبعه في ذلك الدول الأوروبية التي تواجه تحديات في توفير الطاقة التقليدية بسبب تقليص اعتمادها على روسيا، وبالتالي ستدعم شركات طاقتها لزيادة البحث عن النفط والغاز الطبيعي حول العالم، ومنها أفريقيا، وهو ما يرسخ النمط الاستعماري للحصول على المواد الخام والموارد الطبيعية من القارة، مع تراجع إقامة مشروعات تنموية أو لدعم صناعة الطاقة المتجددة.

وعن التأثيرات المحتملة على دول القارة الأفريقية، فهي تتفاوت وفق مدى حاجة كل دولة للمساعدات الإنمائية، كما تتفاوت أيضًا بين القطاعات المختلفة، فمثلًا مساعدات الدول المانحة الرئيسية التي أُعلن خفضها بين عامي 2025 و2027، تشكل نحو 80% من المساعدات الإنمائية الرسمية الموجهة لقطاعي الصحة والسكان، علمًا بأن منطقة أفريقيا جنوب الصحراءً تتلقى نحو 82% من المساعدات الإنمائية من تلك الدول (وفق منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي)، وبالتالي سيكون القطاعين من أكثر القطاعات تضررًا.

ووفق تقديرات منظمة “Oxfam” (في يونيو 2025)، فستخفض دول مجموعة السبع، التي تمثل مجتمعة حوالي 75% من إجمالي المساعدات الإنمائية الرسمية، إنفاقها على المساعدات بنسبة 28% بحلول عام 2026 مقارنة بمستويات عام 2024، ويأتي هذا الخفض للعام الثالث على التوالي، ويعتبر ذلك الخفض هو الأكبر منذ إنشاء مجموعة السبع في عام 1975، وتوقعت المنظمة أن يؤدي ذلك الخفض إلى وقوع 5.7 مليون شخص إضافي في مختلف أنحاء أفريقيا تحت خط الفقر المدقع في 2026، وأن يرتفع إلى 19 مليونا بحلول عام 2030.

إن تراجع المساعدات سيكون له أضرار مباشرة وغير مباشرة على شعوب العالم، خاصة في الدول التي تواجه أزمات مالية واقتصادية مستدامة، ولعل منطقة جنوب أفريقيا تضم العديد من تلك الدول، وبالتالي قد تكون الفترة حتى عام 2027 التي ستشهد اقتطاع في المساعدات الإنمائية الرسمية، أو حتى انتهاء ولاية ترامب الثانية في 2029، من السنوات الصعبة التي قد تواجه دول المنطقة.

أبعاد المواجهة:

شهدت الفترة الماضية تحركًا لبعض المؤسسات الأفريقية لتعويض تراجع حصولها على التمويل الخارجي، وذلك في ظل التوجه العام للدول المانحة بخفض إنفاقها على المساعدات، فسيتجه “بنك التنمية الأفريقي” لأول مرة لإصدار سندات دولية بدءًا من عام 2027 بقيمة 5 مليارات دولار كل 3 سنوات، فيما  كشف بيان صادر عن غرفة الطاقة الأفريقية عن افتتاحه مكتب رسمي في شنغهاي، بهدف تعزيز التعاون بين الحكومات الأفريقية وشركات الطاقة ونظرائها في الدولة الآسيوية، لافتًا إلى أن شركات الطاقة الأفريقية تكافح للوصول إلى رأس المال اللازم لتوسيع نطاق العمليات وزيادة الإنتاج.

إن اتجاه بنك التنمية الأفريقي للاستدانة من الأسواق العالمية بهدف الحصول على تمويل لدعم دول القارة، ومع احتمالية تزايد اتجاه مؤسسات أفريقية أخرى للاستدانة، قد يزيد الضغط على سوق الدين العالمي، ويرفع ذلك بدوره من تكلفة الاقتراض، سواء للمؤسسات الأفريقية أم للدول المقترضة من تلك المؤسسات، حيث سينعكس ذلك بالتبعية على قدرة تلك المؤسسات في الإقراض بأسعار فائدة اقل من السوق العالمي وبشروط ميسرة.

وعلى جانب آخر، فإن الاعتماد المتزايد على الاقتراض من الخارج قد يخفض التصنيف الائتماني للمؤسسات الأفريقية بسبب تراكم الديون بأسعار فائدة مرتفعة، بما يتطلب رفع سعر الفائدة مرة أخرى على القروض التي ستقدمها لدول القارة، وبالتبعية سيزيد ذلك من التزامات الدين الخارجي لدول القارة التي تقترض من تلك المؤسسات.

كما أن تراجع حصول المؤسسات الأفريقية على تمويل من الجهات المانحة، قد يهدد تمويل مشروعات قائمة أو متفق عليها مع بعض الدول، وقد تكون بعضها يستهدف دعم الإنتاج والإنتاجية بشكل مباشر وغير مباشر، بما يعني تراجع الناتج المحلي الإجمالي والدخل القومي، وبالتبعية زيادة احتمالات التعثر عن سداد الديون في آجالها المستحقة، فضلًا عن الدخول في حلقة من التراجع الاقتصادي وزيادة معدلات الفقر ببعض الدول، بما يؤثر على الاستقرار في الاقاليم الفرعية بالقارة.

إن التراجع عن دعم الدول الأفريقية يسفر عن تزايد الصراعات الداخلية على الموارد، في دول العديد منها تعاني من اقتصادات هشة بالفعل، بما يؤثر على استقرارها السياسي والاقتصادي والأمني، وبالتالي قد تشهد دول القارة موجة جديدة من عدم الاستقرار خلال السنوات المقبلة، في ظل عدم اكتراث من المجتمع الدولي والدول المانحة لمثل تلك الأزمات، ولعل نموذج تجويع سكان قطاع غزة وما يحدث في السودان له دلالاته بالشأن.

إضافة إلى ما سبق، من المتوقع أن تتفاقم الصعوبات المالية التي تواجه الدول الأفريقية بفعل الرسوم الجمركية الجديدة التي فرضتها إدارة دونالد ترامب، وفي نفس الوقت يشكل تغير المناخ عاملًا رئيسًا في أزمة انعدام الأمن الغذائي داخل القارة، إذ يؤدي إلى أنماط متقلبة من الأمطار والسيول والفيضانات تارة، وإلى مواسم جفاف أطول تارة أخرى، وكل تلك التحديات مجتمعة سيكون لها تأثير مضاعف على اقتصادات دول القارة، وقد تزيد من حركة اللجوء والهجرة غير الشرعية خلال السنوات المقبلة، بما يزيد من المخاطر المتعلقة بحركة اللاجئين، وما يشمله ذلك من ازدياد حالة عدم الاستقرار الأمني في الدول التي تستضيفهم، أو لتلك التي تعتبر مناطق عبور لوجهتهم النهائية.

في الختام، يُرى أن دول القارة الأفريقية، خاصة بمنطقة أفريقيا جنوب الصحراء، ستتعرض لصدمات متتالية، سواء داخلية أم خارجية، بسبب تراجع التمويل الخارجي، إلا إذا تمت مواجهة ذلك الأمر بشكل استباقي من خلال تعزيز التعاون البيني من ناحية، ومع الخارج من ناحية أخرى، على أن يمتد ذلك للعديد من الأنشطة والقطاعات ذات الأبعاد التنموية، وليس عبر الحصول على تمويل لضبط الوضع المالي للحكومات في الأجل القصير، فضلًا عن المطالبة بعدم خفض المساعدات أو في المقابل يتم شطب الديون الخارجية للدول المانحة، أو تحويل تلك الديون لاستثمارات أجنبية مباشرة تدعم بعض القطاعات التنموية، للتخفيف من أثر تراجع المساعدات الإنمائية الرسمية في وقت يشهد فيه الاقتصاد العالمي حالة من عدم اليقين.

11113
تحولات نقدية: زيادة حيازة الذهب في مواجهة تقلبات السياسة الأمريكية
gaz
إمكانات واعدة: الغاز الطبيعي في منطقة المشرق العربي
12345
تهدئة حذرة: الهدنة المؤقتة بين الصين والولايات المتحدة
EUsyria
مصالح مشتركة: أبعاد التعليق الجزئي للعقوبات الأوروبية على سوريا
Scroll to Top