تسارعت مؤخرًا جهود تحقيق التكامل المؤسسي على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري وحتى الثقافي بين أعضاء تحالف دول الساحل، في الوقت الذي يتزايد فيه تخارجهم من العديد من المؤسسات والمنظمات الدولية ومتعددة الأطراف، والتي برز آخرها في إعلان الدول الثلاث في 22 سبتمبر 2025، انسحابهم من نظام روما الأساسي (أنشئت بموجبه المحكمة الجنائية الدولية)، معلنةً عن مؤسسة جنائية كبديل إقليمي عن المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما يشير لظاهرة توجه الدول الثلاث نحو أقلمة تفاعلاتها.
مظاهر لافتة:
تجسدت مظاهر انتهاج دول الساحل في الاتجاه نحو أقلمة المنطقة في مسارين، هما:
- تزايد الخروج والانسحاب من التكتلات والمنظمات سواء الأفريقية أو حتى الدولية، وقد تجلى ذلك المسار في انسحاب بوركينا فاسو والنيجر من مجموعة دول الساحل الخمس 5G وجميع هيئاتها في 2 ديسمبر 2023 والتي كانت تضم أيضًا تشاد وموريتانيا، وذلك بعد حوالي عام ونصف من خروج مالي، فضلًا عن الانسحاب بشكل رسمي من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) في مطلع العام الجاري بعد فشل مساعي دبلوماسية حثيثة من عدة دول بغرب أفريقيا لإقناع الدول الثلاث للتراجع عن الانسحاب، وأرجعوا انسحابهم بسبب قوة النفوذ الفرنسي المسيطر على المجموعة، فضلًا عن إنهاء عمل بعثة الأمم المتحدة في مالي لحفظ السلام، وسحب فرنسا لقواتها وإنهاء عملية برخان لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، إلى جانب الانسحاب مؤخرًا من المحكمة الجنائية الدولية.
- بلورة مؤسسات بديلة بطابع إقليمي أكثر مواكبة لسياسات دول الساحل، فقد نتج عن سياسة التخارج التي انتهجتها دول الساحل الثلاث الحاجة لملئ الفراغ المؤسسي، وهو ما ترجمته إجراءات الدول الثلاث بتأسيس كونفدرالية دول الساحل؛ حيث تم الإعلان عن تأسيس تكتل إقليمي جديد تحت اسم كونفدرالية الساحل في قمة ثلاثية استضافتها العاصمة النيجرية نيامي بحضور رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر في يوليو 2024، فضلًا عن التفكير في إنشاء برلمان كونفدرالي موحد، وإلغاء التأشيرات على زيارات مواطنيهم، وإصدار جوازات سفر واحدة، واستصدار عملة موحدة للدول الثلاث، واعتماد سياسة جمركية موحدة بفرض رسوم جمركية بنسبة 0.5%، وتأسيس البنك الكونفدرالي للاستثمار والتنمية (BCID-AES)، وإطلاق قناة تلفزيونية تابعة للتحالف وإعلان سياسة ثقافية موحدة ونشيد موحد للكونفدرالية في مايو 2025، فضلًا عن تأسيس محكمة جنائية إقليمية على أن يكون مقرها العاصمة المالية باماكو، بحيث تكون بديلة عن المحكمة الجنائية الدولية.
دوافع الأقلمة:
تشابكت العديد من العوامل التي دفعت الدول الثلاث نحو أقلمة المنطقة، أبرزها: وجود توجه ثلاثي مشترك للتخلص من النفوذ الغربي، وهو ما ظهر في إخراج القوات الفرنسية والأمريكية من الدول الثلاث، واستبدالهم بشراكات أمنية بديلة، ويتكامل مع ذلك معاناة الدول الثلاث من التحديات الأمنية المتشابهة والمتمثلة في تصاعد أعمال العنف المسلح والنشاط الإرهابي فيها، ونشاط العديد من الجماعات، مثل جماعة أنصار الإسلام والمسلمين الموالية لتنظيم القاعدة الإرهابي.
وقد أدى السياق الإقليمي في منطقة الغرب الأفريقي، والذي عارضت دوله وأبرزهم نيجيريا السياسات التي تبنتها الدول الثلاث المناهضة للوجود الغربي وتحديدًا الفرنسي في المنطقة، إلى تضافر جهود دول الساحل نحو تعزيز التعاون فيما بينهم، والذي يرتكز على الرؤى السياسية والأمنية المتقاربة والمتشاركة في كثير من الجوانب، والتي تجلى أبرزها في التوجه لبناء شراكات أمنية وعسكرية مع روسيا والصين كبديل عن الشراكات التقليدية مع الولايات المتحدة وفرنسا، والتي ظلت المنطقة لفترة طويلة من الزمن تحت نفوذها، مع بروز شراكات أمنية أوسع مع روسيا من خلال فاجنر في السابق والفليق الروسي حاليًا، أو الارتكاز على التعاون العسكري مع الصين.
تأثيرات محتملة:
تتعدد التأثيرات المحتملة والناجمة عن أقلمة منطقة الساحل، وذلك على النحو التالي:
1-سياسيًا: يترتب على تصاعد ظاهرة أقلمة دول الساحل الثلاث عددًا من التأثيرات السياسية المحتملة، والتي تكمن في الآتي:
- تزايد التنافس الدولي على منطقة الساحل، مع تزايد خطوات الدول الثلاث بالابتعاد عن النفوذ الغربي وبناء شراكات جديدة وغير تقليدية مع مختلف القوى الدولية والإقليمية بداية بروسيا والصين وحتى تركيا وإيران، ويحتدم التنافس الدولي على النفوذ والمصالح المختلفة في المنطقة الغنية بالموارد والمعادن المهمة، بما قد يدفع بعض الدول الغربية لمحاولة التقارب من جديد مع دول الساحل بما يستهدف إعادة تموضعها وإيجاد موطئ قدم لها على خارطة النفوذ في كونفدرالية دول الساحل، وهو ما ترجمته تحركات الولايات المتحدة والتي تجسدت في زيارة المبعوث الأمريكي وهو المساعد الأول لمكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض “رودولف عطالله” إلى مالي في يوليو الماضي، بما يشير لمحاولة طرق الولايات المتحدة لأبواب العودة لمنطقة الساحل من خلال بوابة مكافحة الإرهاب ورسم ترتيبات أمنية جديدة مع الدول الثلاث.
- احتمالية التكرار أو التوسع، قد تسعى دول أخرى في القارة الأفريقية – في حال نجاح تجربة دول الساحل – لتكرار تجربة دول الساحل وتشكيل نموذج جديد لأقلمة منطقة أخرى في القارة الأفريقية أو حتى خارجها، ومن جهة أخرى فإن هناك احتمالية لانضمام دول أخرى تتشارك معهم التوجهات قد تكون تشاد على سبيل المثال، أو حتى دولة من دول الغرب الأفريقي، لاسيما غينيا التي تحتفظ مع دول الساحل بعلاقات وطيدة، وهو ما سيوفر امتدادًا لدول الساحل نحو الإطلالة البحرية.
- تتوقف قدرة الدول الثلاث في الاستمرار في نموذج الأقلمة على مدى قدرتهم على التغلب وتجاوز التحديات السياسية والأمنية التي تحيط بهم، حيث تشكل الأوضاع السياسية الداخلية في الدول الثلاث واحدة من التحديات التي قد تطيح بمشروع الأقلمة، فقد يأتي نظام برؤية مختلفة يمثل تهديدًا لمستقبل المشروع.
2-أمنيًا وعسكريًا:
- تزايد التنسيق الأمني المشترك، حيث يُرجح أن يشهد التعاون البيني بين الدول الثلاث تصاعدًا مطردًا، على مستوى التنسيق المشترك لمجابهة التحديات الأمنية التي تثقل كاهل دول الساحل، لا سيما في ضوء تعقيدات المشهد الأمني الذي يتمثل في تكثيف جماعة أنصار الإسلام والمسلمين لهجماتها بشكل كبير خاصةً في منطقة المثلث الحدودي الذي يقع بين حدود هذه الدول، على نحو يتطلب تضافر لجهود الدول الثلاث ورفع التنسيق الأمني بدرجة كبيرة.
- التوسع في بناء الشراكات الدولية، يحتمل أن يتم تعزيز تحركات كونفدرالية دول الساحل لتعميق وتوسيع شراكاتها مع روسيا والصين؛ لا سيما بعد توقيع الرئيس الانتقالي المالي “أسيمي جويتا” في سبتمبر عام 2024، اتفاقًا مع شركة نورينكو الصينية المتخصصة في الصناعات الدفاعية، وذلك على هامش حضوره منتدى التعاون الصيني-الأفريقي، وعلى أساسه تسلمت مالي عددًا من شحنات الأسلحة التي كان من بينها منظومة راجمات الصواريخ الصينية SR-5 في سبتمبر الماضي، وهو ما يوفر حماية لشرعية القادة في الدول الثلاث بعد ابتعادهم عن الغرب وفي ظل معارضة بعض دول الغرب الأفريقي لهم.
وختامًا، يمكن القول إن الدوافع السياسية والأمنية قد حدت بالدول الثلاث نحو مسار الانعزالية وذاتية الاعتماد، من خلال التخارج من المؤسسات الدولية وتكثيف التعاون البيني، مما أفرز بشكل واضح عددًا من المظاهر التي تشير لبزوغ إقليم فرعي جديد في القارة الأفريقية، وهو ما قد يؤدي حال نجاح نموذج أقلمة دول الساحل لتكرار النموذج في عدد من الدول في أفريقيا أو حتى في مناطق أخرى حول العالم.

