الافتتاحية
لواء / طارق عبد العظيم
رئيس المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط
يواكب هذا العدد العديد من التطورات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والتي من شأنها التأثير على مستقبل الترتيبات السياسية والأمنية والعسكرية في المنطقة، ففي غزة، مازالت الحرب الإسرائيلية والإبادة الجماعية قائمة، وذلك في ظل مساعي الحكومة الإسرائيلية لتوسيع العمليات العسكرية في غزة والعمل على تهجير أهاليها وهزيمة حماس والفصائل الأخرى، وهو الأمر الذي نتج عنه تعقيد جهود الوساطة وإفشال أي محاولة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، لاسيما مع إصرار إسرائيل على اشتراط نزع سلاح حماس وإخراج الرهائن كافة، وفي الوقت ذاته تشهد الساحة الفلسطينية تغيرات متسارعة فيما يتعلق بإعادة إصلاح السلطة الفلسطينية، وهو ما انعكس مؤخرًا في تعيين نائب للرئيس محمود عباس أبومازن.
وفي لبنان، ورغم التوصل في بداية العام إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع حزب الله، وهو الأمر الذي أدى إلى إعادة انتشار الجيش اللبناني في مناطق جنوب نهر الليطاني وتفكيك بنية حزب الله فيها، وقطع طرق الإمداد (الجوية: عبر منع هبوط الطائرات الإيرانية في مطار بيروت، والبرية: لاسيما بعد سقوط نظام بشار الأسد)، ووجود مناقشات لبنانية رسمية لنزع سلاح حزب الله وطرح مسألة دمج قواته في المؤسسات الأمنية على غرار ما حدث فيما بعد اتفاق الطائف 1989 مع بعض المجموعات المسلحة آنذاك، إلا أن إسرائيل مازالت تتمسك بالسيطرة على “5” نقاط أمنية وعسكرية في جنوب لبنان، فيما تستمر انتهاكات إسرائيل بتنفيذ عمليات اغتيال لقيادات حزب الله واستهداف بنيته الحيوية في الجنوب أو في بيروت، فيما لازال حزب الله في مرحلة استيعاب الانتهاكات الإسرائيلية، وتركيزه على قضية إعادة الإعمار والحفاظ على شرعيته الوطنية، ولكن لا يوجد ما يضمن استمرار هذا الوضع على المديين المتوسط والبعيد، حيث تُرجح التقديرات بأن الوضع قد يزداد سوءًا بعد إعادة ترميم الحزب لقدراته وتأمينه لطرق الإمداد، فيما يتوقع أن تصبح تلك المخاوف أكثر خطورة حال شن إسرائيل ضربات عسكرية على المنشآت النووية والنفطية الإيرانية، وهو الأمر الذي قد يدفع إلى حرب إقليمية أوسع في المنطقة.
ومنذ يناير 2025، شهدت سوريا تحولات سياسية وأمنية جذرية مع سيطرة “هيئة تحرير الشام” على معظم أراضي البلاد، وإعلانها تشكيل حكومة مؤقتة برئاسة ” أحمد الشرع”، وسط حل مؤسسات النظام السابق وتعليق الدستور، فيما أطلقت الحكومة الجديدة حوارًا وطنيًا لصياغة إعلان دستوري جديد، وبدأت تفاوضًا مع قوى محلية وفصائل مسلحة كـ “قوات سوريا الديمقراطية” والتي أبدت استعدادها للاندماج في جيش موحد. بالتوازي، تصاعدت أعمال العنف الطائفي، خصوصًا في ريف اللاذقية ودمشق، وشهدت مناطق مثل الجنوب السوري توترات بفعل التدخل الإسرائيلي، بينما استمرت الاشتباكات بين الفصائل المدعومة من تركيا والأكراد في الشمال الشرقي، ما تسبب في موجات نزوح واسعة. وإقليميًا ودوليًا، أعادت التطورات خلط أوراق النفوذ، فقد تراجع الوجود الروسي والإيراني لصالح تركيا التي عززت حضورها شمالًا، فيما أبقت واشنطن على دعمها للأكراد مع تحفظها على الاعتراف بالحكومة الجديدة، فيما زادت إسرائيل من توغلها العسكري والأمني في الجنوب، وتعزيز حضورها من خلال دفاعها عن الدروز، بينما أبدت دول خليجية، على رأسها قطر والسعودية، دعمًا واضحًا للمرحلة الانتقالية. وبشكل عام، وفي ظل الانقسام بين الفاعلين المحليين، وتضارب مصالح الأطراف الدولية، يبقى مستقبل سوريا مرهونًا بقدرة الحكومة المؤقتة على ضبط الأمن، وبناء مؤسسات جامعة، وكسب الاعتراف الدولي دون السقوط مجددًا في دوامة العنف الطائفي والانقسامات المسلحة.وفي السياق ذاته، شهد السودان تصعيدًا في الصراع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية والسياسية، فيما حقق الجيش السوداني نجاحات ملحوظة في استعادة وتحرير الخرطوم بشكل كامل، مع استمرار القتال في مناطق مثل دارفور وجنوب كردفان. فيما أعلنت قوات الدعم السريع وحلفائها عن تشكيل “حكومة السلام والوحدة” في مارس 2025، برئاسة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، كحكومة موازية لحكومة بورتسودان المعترف بها دوليًا. في المقابل، يعمل مجلس السيادة الانتقالي على تعديل الوثيقة الدستورية لعام 2019 لتشكيل حكومة انتقالية بقيادة مدنية، بينما تتواصل الجهود الدولية والإقليمية للوساطة وتزايد الانخراط الدولي لحلحلة الأزمة.
وفي ليبيا، عاد التصعيد السياسي بين الأطراف الرئيسية في ليبيا، منذ يناير 2025، بينما استمرت التوترات الأمنية في غرب وجنوب البلاد على خلفية النزاع على النفوذ والموارد المالية والطبيعية. ففي حين صعد رئيس مجلس النواب مطالبته بإعادة تشكيل السلطة التنفيذية بما فيها المجلس الرئاسي والحكومة، كشرط للتقدم في العملية السياسية والذهاب نحو الانتخابات، بادرت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا مطلع فبراير 2025 بتشكيل لجنة استشارية لتقديم مقترحات لمعالجة القضايا الخلافية العالقة في العملية السياسية لضمان إحراز تقدم واستئناف العملية الانتخابية، قبل أن يطرح رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي في 29 أبريل ٢٠٢٥ “3” مراسيم بقوانين، قضى الأول بوقف العمل بقانون المحكمة الدستورية الذي أصدره مجلس النواب، وحدد المرسوم الثاني آليات وشروط انتخاب المؤتمر العام للمصالحة الوطنية، ونص الثالث على تشكيل المفوضية الوطنية للاستفتاء والاستعلام الوطني ويحدد مهامها. بالإضافة إلى ذلك أمهل المنفي المفوضية الوطنية العليا “30” يوما لإجراء الاستفتاء على مشروع الدستور الذي أعدتها الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور في 27 يوليو ٢٠١٧. وجاءت خطوات المنفي ضمن حزمة مكونة من “12” مرسوما ستصدر تباعًا في إطار ما سماه “خطة الإنقاذ الوطني”.
وأمنيًا، أصدر القائد العام للجيش الوطني الليبي في فبراير الماضي قرارًا بحل اللواء 128 معزز بقيادة حسن معتوق الزادمة ونقل عتاده العسكري إلى لوائين جديدين في منطقة الجفرة وسرت، إثر خلافات بين الزادمة وأبناء المشير خليفة حفتر صدام وخالد بسبب النزاع على السيطرة على مناجم الذهب وطرق التهريب على حدود ليبيا مع تشاد والنيجر، وهو ما أدى إلى توترات أمنية في مناطق وسط وجنوب ليبيا على خلفية محاولات القبض على الزادمة. وفي غرب البلاد، أطلقت “المنطقة العسكرية الساحل الغربي” في 3 يناير 2025 عملية عسكرية وأمنية ضد أوكار المهربين وتجار المخدرات الذين ينشطون في تلك المناطق في محاولة للسيطرة على الوضع الأمني المتدهور بتلك المناطق جراء احتدام المنافسة بين عصابات التهريب وتجار المخدرات التي تتطور إلى اشتباكات مسلحة راح ضحيتها العديد من الأشخاص خاصة في مدن الزاوية والعجيلات. إلى جانب ذلك سيطرة قوات تابعة لوزارة الداخلية على منفذ “رأس جدير” الحدود مع تونس بعد توترات أمنية شهدها المنفذ بين جماعات مسلحة أمازيجية والقوات الحكومية قبل أن تتم تسوية الموقف بوساطات محلية. ودوليا، سجلت الشهور الخمسة الأولى من العام الجاري تقاربا لافتًا وانفتاحًا من جانب تركيا على شرق ليبيا، إلى جانب ذلك، برزت مؤشرات على تمدد النفوذ الروسي في شرق وجنوب عبر بناء قواعد عسكرية، الأمر الذي يعكس تصاعد المنافسة الدولية في ليبيا.
ولم يكن اليمن بعيدًا عن حالة بؤر الصراع السابقة، فقد شهد اليمن منذ يناير 2025 تطورات سياسية وأمنية معقدة، حيث استمر الصراع بين الحكومة المعترف بها دوليًا والحوثيين، وقد استقال رئيس الوزراء اليمني في مايو 2025 وسط أزمة اقتصادية متفاقمة. وفي مارس 2025، أطلقت الولايات المتحدة “عملية راف رايدر” ضد الحوثيين بهدف استعادة حرية الملاحة في البحر الأحمر وردع هجماتهم على السفن التجارية توقفت العملية لاحقًا بعد التوصل إلى اتفاق منفرد بين الولايات المتحدة والحويثيين بعيدًا عن إسرائيل، وقد شملت الأهداف التي قصفتها القوات الأمريكية أنظمة الرادار والدفاعات الجوية ومواقع إطلاق الصواريخ ومراكز القيادة والسيطرة، وبينما ادعى الجيش الأمريكي تقويض قدرات الحوثيين، استمرت هجمات الجماعة على إسرائيل.
وتزامنًا مع التطورات الإقليمية السابقة، باشر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهام الحكم بدءً من 20 يناير 2025 في البيض الأبيض، وعبرت الـ 100 يوم الأولى من حكمه عن تبني مقاربة واقعية وبراجماتية على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني، وهو ما انعكس بشكل مباشر على مسار ومجريات القضايا الرئيسة في منطقة الشرق الأوسط، فقد أحدث مباشرة إدارته الحكم تحولًا جوهريًا في معظم قضايا المنطقة بشكل لافت، وهو الأمر الذي طرح العديد من التساؤلات حول ماهية هذه التحولات، ومحدداتها، ومساراتها المستقبلية على الأمن الإقليمي والترتيبات الخاصة بالمنطقة.
ويغتني هذا العدد، بالعديد من التقارير البحثية التي تسعى إلى الإجابة على هذه التساؤلات، حيث تناقش ملامح التحول في سياسة الولايات المتحدة إزاء الشرق الأوسط بشكل عام والوطن العربي بشكل خاص بالإضافة إلى السياسة الأمريكية إزاء منطقة القرن الأفريقي لما لها من تداعيات مباشرة على الأمن القومي العربي، وتحليل مدى التغير والاستمرارية في سياسة الولايات المتحدة إزاء القضايا الرئيسة وبؤر التوتر والصراع في المنطقة مع إدارة ترامب الثانية، كما تتعرض مقالات الخبراء داخل العدد إلى التأثيرات المحتملة لسياسة ترامب على مسار القضايا الجوهرية في المنطقة ومستقبل الشرق الأوسط بشكل عام، كما تطرح بعض الرؤى لتطوير العلاقات العسكرية الأمريكية العربية، لاسيما العلاقات المصرية الأمريكية، فيما تطرح الرؤى والبدائل الإقليمية للتعاون والتكامل الإقليمي في مواجهة تحولات السياسة الأمريكية القائمة على البراجماتية الشديدة، ويتضمن العدد أيضا، قراءة نقدية لما قدمته مراكز الأبحاث الأمريكية المتعلقة بسياسة الولايات المتحدة إزاء إعادة تشكيل النظام الدولي وبعض القضايا الرئيسية الأخرى مثل استراتيجية إعادة هيكلة التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، وموقف الولايات المتحدة من الوضع في منطقة المحيطين، بالإضافة إلى ما قدمته تلك المراكز من تحليلات لرؤية ترامب الاقتصادية.
وجدير بالذكر أن العدد بكل ما تضمنه من محاور وقضايا تم معالجتها فى توقيت محدد وإن كانت قد شهدت بعض الموضوعات تطورًا فى فترة الاعداد والتصميم.
العدد-102