مع إقدام إسرائيل على تنفيذ مخطط الهجرة الطوعية من خلال تشكيل هيئة مختصة بهذا الشأن تحت إشراف وزارة الدفاع الإسرائيلية، وتحديد مهامها وإجراءاتها وتدابيرها، فإن هناك بعض الأسئلة المطروحة حول مدى نجاح هذه الهيئة في ترحيل الفلسطينيين بالفعل، ومدى قبول الفلسطينيين للخروج من أراضيهم في هذا التوقيت، خاصةً أن إسرائيل تعمل بكل جهدها على تنفيذ هذا المخطط بصورة عاجلة وترغب في نقل الفلسطينيين إلى دول أخرى خارج إطار دول الجوار الإقليمي، تماشيًا مع نهج إسرائيل السياسي والأمني والاستراتيجي، الذي يقوم على تفريغ القطاع من سكانه.
وعلى الرغم من نفي بعض الدول قبولها نقل الفلسطينيين إلى أراضيها، فإن هناك بعض الدوافع التي قد تبدو منطقية لحدوث ذلك، خاصةً مع سوء الوضع الداخلي، وانهيار الخدمات المقدمة لسكان القطاع، وتصميم حركة حماس على البقاء في صدارة المشهد وعدم تخليها عن السلطة التي انقلبت عليها منذ سنوات، وبرغم موافقتها التي يري البعض أنها موافقة تكتيكية ليس أكثر في ظل تشكيل لجنة إدارية غير فصائلية لإدارة الأوضاع في القطاع، إضافةً إلى حالة الانسداد نتيجة بقاء الأوضاع الفلسطينية على ما هي عليه حتى الآن، وعدم حدوث تغييرات حقيقية في هيكل السلطة الفلسطينية مثلما وعد الرئيس “محمود عباس”.
إن المشهد الراهن يؤكد أن إسرائيل لا تريد أن تتخلى عن منطق القوة وتعمل في اتجاه تحقيق أهدافها الرئيسية دون تقديم أي تنازلات في التفاوض خاصةً أن إشكالية استلام المحتجزين لا يعني تخليها عن أهدافها الكبرى في قطاع غزة والعمل على إتمام مشروع التهجير بناءً على طرح الرئيس “ترامب” خاصةً أن كل الظروف مواتية بالفعل لإتمام ذلك، في ظل الأعمال العسكرية الإسرائيلية والمناخ الإقليمي المعقد والمضطرب، ومن ثم فإن الحكومة الإسرائيلية ستُسرع الخطوات الراهنة لإتمام التهجير إلى دول متعددة، بدعم من الولايات المتحدة.
وبالنظر إلى الواقع الفلسطيني، فإنه من الصعب تصور إمكانية الوقوف في مواجهة ما يجري في ظل الخلافات الراهنة بين فتح وحماس ومناشدة الأولى للثانية بالتخلي عن الحكم، وهو ما يؤكد على أن المشهد الفلسطيني في حاجة لإعادة ترتيب الأولويات والمهام خاصةً أن أي مراجعة حقيقية يجب أن تتم في سياق من الحسابات السياسية والاستراتيجية التي تطرحها كل الأطراف، في ظل تساؤلات حول سبب الضغط على حماس للتخلي عن وضعها في القطاع والدخول في مخاطرة التخلي عن الحكم وأن الاحتلال وبقائه يفرض بقاء المقاومة الفلسطينية وهو أمر مهم ويُطرح في سياقات فلسطينية حقيقية ويحتاج إلى مراجعات سياسية كاملة يمكن البناء عليها وليس الدوران في حلقة مفرغة.
ولهذا، وفي كل الأحوال، فإن سكان القطاع يواجهون خيارات صعبة بالفعل في البقاء على الأرض ولكن كيف تتوفر لهم الحد الأدنى من مقومات الحياة في ظل الممارسات التي تقوم بها الحكومة الإسرائيلية على الأرض، ومخططها للهجرة الطوعية وتسهيل المرور الآمن والمنظم لسكان غزة إلى دول ثالثة في إطار رؤية الرئيس الأمريكي ترامب، والتي تقترح “إخلاء” غزة من سكانها كجزء من خطة لإعادة تشكيل المنطقة، ومن الواضح أن الخطة الإسرائيلية لتنفيذ مخطط التهجير تشمل مساعدة كبرى من شأنها أن تتيح لسكان قطاع غزة الراغبين بالهجرة الطوعية إلى بلد ثالث الحصول على حزمة شاملة تتضمن، من بين أمور أخرى، ترتيبات خاصة للمغادرة بحرًا وجوًا وبرًا.
وفي هذا السياق، تحاول إسرائيل إقناع العالم بأنها بدأت خطوة تجريبية لنقل سكان غزة للخارج، وأن هذه الخطوة نجحت وتحظى بقبول من السكان أنفسهم كما تعمل على استغلال إجلاء الدول الأوروبية لعدد من رعاياها من أجل الترويج لقبول الفلسطينيين بمخطط التهجير، والإشارة إلى إمكانية تطبيقه عبر خطط بديلة بعيدًا عن الرفض العربي وتدرك إسرائيل أهمية الحرب الإعلامية في تحويل الفرضيات والخطط إلى وقائع قبل تنفيذها، وتركز إسرائيل في الوقت الراهن على تنفيذ مخطط التهجير للأفراد الذين يحملون تأشيرات دول أجنبية، أو لهم أقارب من الدرجة الأولى في تلك الدول، والتنسيق والتواصل معهم مباشرة، وطلب توجههم إلى المعابر الإسرائيلية لإخراجهم من القطاع، ومن هناك تتم الإجراءات الأولية، وينقلون عبر حافلات إلى المطار الإسرائيلي في منطقة النقب.
وتُركز استراتيجية إسرائيل على عدة عناصر، أهمها: بذل كل جهد متاح لإطلاق سراح جميع المحتجزين في إطار خطة المبعوث الأمريكي “ستيف ويتكوف”، وبناء جسر لهزيمة حركة حماس لاحقًا من خلال وقف المساعدات الإنسانية التي تعزز سيطرة حماس على السكان، وإنشاء بنية تحتية للتوزيع عبر شركات مدنية لاحقًا والاستهداف المتواصل لعناصر حماس وبنيتها التحتية وإخلاء السكان من مناطق القتال وتعزيز العمليات العسكرية بقوة كبيرة من الجو والبر والبحر، مع استخدام معدات ثقيلة للتعامل مع العبوات الناسفة وهدم المباني لحماية القوات الإسرائيلية وتطهير المناطق الفلسطينية، وضمها إلى مناطق الأمن الإسرائيلية لحماية المستوطنات بالتوازي، على أن يتم التقدم في خطة الانتقال الطوعي لسكان غزة، والضغط على حماس لتنفيذ الصفقة وتشجيع القيام بالاحتجاجات ضد حركة حماس.
وفي المجمل، ترتكز أولوية إسرائيل على تقويض المقاومة الفلسطينية في القطاع، وفرض حقائق جغرافية وديموجرافية جديدة، بالسيطرة على أجزاء من القطاع على الأقل، والحفاظ على حرية العمل العسكري فيه، مع السعي لتهجير السكان، وتولي إدارة تابعة له أو متجاوبة لتوجهاته، سواء كانت فلسطينية أو عربية أو دولية ولا تقدم إسرائيل خيارًا للتفاوض بشأن مستقبل القطاع، ولكنها تشترط نزع السلاح والتوافق معها بشأنه، ضمن رؤية سياسية لا تقبل قيام دولة فلسطينية ولا بوجود كيان سياسي موحد في الضفة وغزة، وتراهن إسرائيل على تنفيذ خطة ترامب للتهجير، وتربط إمكانية تمديده بإطلاق مزيد من الأسرى الإسرائيليين، وبموافقة الطرفين، وتشترط ترتيبات لوصول الإغاثة إلى المدنيين فقط، وأخيرًا، تُخضع إسرائيل حدود انسحابها إلى نتيجة التفاوض، واعتباراتها الأمنية والعسكرية، وتطرح انسحابًا تدريجيًا إلى الحدود المعتمدة في الهدنة السابقة على مدار فترة المرحلة الثانية من التفاوض.
وستظل الهجرة الطوعية أحد أهم الأهداف الرئيسية للتحرك الإسرائيلي مع اعتماد استراتيجيات أخرى مكملة لتحقيق خرقًا حقيقيًا في الواقع الديموجرافي الراهن في قطاع غزة، واستبداله بواقع يتماشى مع الطرح الإسرائيلي.