Search

العقوبات الاقتصادية: حرب صامتة أشد فتكًا من الصراعات المسلحة

17/09/2025

تُعد العقوبات الدولية إحدى أبرز أدوات السياسة العالمية، باعتبارها بديلًا واضحًا وأقل تكلفة من التدخل العسكري، إذ تُخلّف آثارًا أعمق وأكثر فتكًا على حياة الشعوب، فهي لا تقتصر على تقييد تحركات الحكومات المستهدفة، بل تُضعف الاقتصادات لسنوات طويلة بما ينعكس سلبًا على مستويات المعيشة والخدمات الأساسية، ومع ذلك، تبقى فاعلية العقوبات الاقتصادية موضع جدل واسع، وفي الحالة الأمريكية؛ فمنذ تولّي “دونالد ترامب” ولايته الأولى، توسّع نطاق استخدام واشنطن للعقوبات بصورة غير مسبوقة، وهو ما أثار تساؤلات جوهرية حول ما إذا كانت هذه الاستراتيجية قد حققت أهدافًا ملموسة بالفعل، أم أنها اقتصرت على كونها أداة ضغط رمزية أكثر من كونها وسيلة فاعلة لتغيير سلوك الدول المستهدفة.

فاعلية العقوبات الاقتصادية:

تُشير العقوبات إلى مجموعة واسعة من السياسات القسرية التي تفرضها الحكومات أو المنظمات متعددة الأطراف لتقييد أنشطة دول أو كيانات أو أفراد أجانب، وتختلف العقوبات الاقتصادية في نطاقها وأشكالها من قيود على السفر، إلى ضوابط على الصادرات، إلى حظر شامل على التجارة أو المعاملات المالية العابرة للحدود؛ ومنها ما يستهدف أفرادًا بعينهم، ومنها ما يطبق على دول بأكملها؛ ومنها ما تفرضه دولة واحدة، أو ما يتم التوافق عليه في أطر متعددة الأطراف كالأمم المتحدة.

ويُقصد بالنجاح العام لآلية فرض العقوبات الاقتصادية أن تُسهم تلك العقوبات بشكل ملموس في تحقيق الهدف من السياسة الخارجية، سواء بصورة كاملة أو جزئية، وغالبًا ما يكون تحقيقه جزئيًا أكثر شيوعًا من الوصول إلى تحقيقها كاملة، حيث تشير التقديرات إلى أن معدل النجاح الإجمالي للعقوبات الاقتصادية التي تفرضها الدول يقارب 30% أي حوالي ثلث الحالات بشكل عام، مع الأخذ في الاعتبار أن تأثير العقوبات الاقتصادية على الدول المستهدفة قد شهد انخفاضًا بعد عام 1995 [1]، ومع ذلك يتحدد معدل نجاح سياسة العقوبات بشكل عام على نوع الأهداف المنشودة.

ومن منظور إدارة “ترامب”، يُقاس نجاح العقوبات الاقتصادية منذ فترة ولايته الأولى، بمدى قدرتها على تحقيق أهداف محددة وملموسة في الأجل القريب، مثل تعديل اتفاقيات تجارية، أو دفع دول مستهدفة لتعديل سلوك أو نظام ما، أو إطلاق سراح رهائن أمريكيين، ورغم أن بعض هذه العقوبات قد أسفر عنها أضرار اقتصادية على الدول المستهدفة، فإن فاعليتها في تحقيق تغييرات سياسية أو اقتصادية جوهرية ظلت محدودة، مما يعكس طبيعة تلك الأداة باعتبارها أداة ضغط قصيرة المدى أكثر من كونها وسيلة لإحداث تحول استراتيجي عميق، ويتسق ذلك مع ما تشير إليه بعض التقديرات من أن نجاح العقوبات الاقتصادية عمومًا لا يتجاوز ثلث الحالات، مما يجعل نجاحها الجزئي أكثر شيوعًا من نجاحها بتحقيقها أهدافها الكاملة.

توجهات ترامب:

تُعد الولايات المتحدة الأمريكية من أبرز الدول التي تستخدم سلاح العقوبات الاقتصادية، ويمكن تصنيف العقوبات الأمريكية على النحو التالي[2]:

  • قطاعية: تستهدف قطاعات معينة داخل اقتصاد ما.
  • شاملة: تحظر كل أو معظم الأنشطة الاقتصادية، بما في ذلك المعاملات المالية والتصدير والاستيراد، مع دول بأكملها (مثل كوبا، إيران، كوريا الشمالية، سوريا) أو مع مناطق فرعية (مثل دونيتسك ولوغانسك في شرق أوكرانيا).
  • قائمة (أي فردية أو خاصة بالكيانات): تشمل منع التعامل مع شركات أو منظمات أو أفراد مُدرجين على قوائم العقوبات الفيدرالية (مثل قائمة الأشخاص والكيانات المحظورة)، ورغم أنها توصف أحيانًا بأنها “ذكية”، فإن آثارها غالبًا ما تكون واسعة النطاق.
  • ثانوية: إلى جانب هذه العقوبات الأولية، هناك عقوبات ثانوية تُفرض على أطراف لمعاقبتهم على تعاملهم مع الجهة المستهدفة، فمثلًا، قد تُعاقَب مؤسسة مالية أجنبية إذا تعاملت مع شركة نفط إيرانية، وهكذا تمتد آثار العقوبات الأمريكية إلى ما وراء حدودها المباشرة، نظرًا لدور الدولار والنظام المالي الأمريكي عالميًا.

اختلف استخدام العقوبات في إدارة “ترامب” عن إدارة “أوباما”، حيث كان استخدام العقوبات الاقتصادية في عهد “أوباما” أكثر تركيزًا، ومثلت إيران الأولوية القصوى لسياسة العقوبات الأمريكية في الفترة بين عامي 2010 و2015، ثم تحول التركيز لاحقًا إلى روسيا ما بين عامي 2014 و2016 [3]، بينما في المقابل تميزت إدارة “ترامب” باتباع نهج أكثر اندفاعًا، إذ أصبح ملف العقوبات الاقتصادية في صدارة أجندة السياسة الخارجية عبر 3 ملفات رئيسة في وقت واحد، وهى: إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية وذلك في فترة ولايته الأولى، فضلًا عن تكثيف العقوبات على دول أخرى مثل كوبا وسوريا وروسيا، ويوضح الشكل التالي حجم استخدام العقوبات الاقتصادية بين فترة حكم “أوباما” وولاية ” ترامب” الأولى[4].

شرعية استخدام العقوبات الاقتصادية:

لاتزال شرعية العقوبات الاقتصادية الأمريكية مثار جدل قانوني واسع، إذ يرى البعض أن مجلس الأمن وحده يمتلك صلاحية فرض العقوبات وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وبالتالي فإن العقوبات الأحادية تُعد انتهاكًا لسيادة الدول وتقويضًا للقانون الدولي، كما أنها قد تتعارض مع ميثاق منظمة الدول الأمريكية “OAS” – تُعتبر الولايات المتحدة عضوًا فيه – الذي يحظر التدخل الاقتصادي والسياسي في شئون الدول للتأثير على سيادة أعضائها أو إرادتهم المستقلة، وعليه، فإن لجوء الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات أحادية الجانب على دول مثل فنزويلا أو كوبا يُتعارض مع الالتزامات القانونية المترتبة عليها.

وفي ذات السياق، تشير دراسة حديثة تغطي الفترة (1971 – 2021) في 152 دولة إلى أن العقوبات الاقتصادية تخلّف آثارًا إنسانية واقتصادية أشد وطأة من الحروب، حيث تسببت العقوبات الأحادية، ومعظمها بقيادة الولايات المتحدة، في نحو نصف مليون وفاة سنويًا خلال الفترة (2012 – 2021)، مقارنة بنحو 106 آلاف وفاة فقط كتكلفة بشرية للحروب خلال الفترة ذاتها[5]، مما يوضح أن العقوبات الاقتصادية تقتل مدنيين أكثر بخمسة أضعاف مما تفعله الحروب، كما تم اعتبار العقوبات الأمريكية أشد فتكًا من التي يتم فرضها بتفويض أممي، وبيّنت تقديرات أخرى أن القيود الأمريكية بشكل عام خفّضت معدلات النمو في الدول المستهدفة بواقع 1.21 نقطة مئوية سنويًا.

وخلال إدارة “ترامب” الأولى، برزت مجموعة من التداعيات السلبية على عدد من الدول المفروضة عليها عقوبات، يمكن تناولها على النحو التالي:

  • إيران: انهارت الاحتياطات من النقد الأجنبي من نحو 122.5 مليار دولار في عام 2018 إلى ما يقرب 4 مليار في عام 2020، كما انخفضت عائدات النفط من 53 مليار دولار في عام 2017 إلى حوالي 9 مليار دولار فقط في عام 2020، فضلًا عن خروج العديد من الاستثمارات الأجنبية في تلك الفترة، إلى جانب وجود تقديرات بالتراجع الحاد في قيمة العملة الوطنية في السوق الموازي حيث خسر الريال الإيراني  حوالي 70% إلى 80% من قيمته مقابل الدولار بين عامي 2017 و 2020، بجانب تدهور قطاع الطاقة بفعل القيود على تصدير النفط، ورغم هذه الخسائر الاقتصادية لم تنجح العقوبات الأمريكية في تلك الحقبة في تحقيق أهداف سياسية مرجوة، حيث استمرت إيران في تعزيز برنامجها النووي ولم يُسجل أي مؤشرات على تغيير النظام أو تراجعه عن سياساته.
  • فنزويلا: شهدت فنزويلا بين عامي 2017 و2020 تصعيدًا غير مسبوق في العقوبات الأمريكية، خاصة بعد فرض إدارة “ترامب” الاولى سياسة “الضغط الاقصى”، حيث استهدفت العقوبات أهم مصادر الدخل القومي لاسيما قطاع النفط الذي يوفر أكثر من 95% من النقد الأجنبي، مما أدى إلى انهيار القدرة الاستيرادية، كما انخفض إنتاج النفط من حوالي 2.5 مليون برميل يوميًا في 2016 إلى نحو 300 ألف برميل في 2020، وانكمش الاقتصاد بدرجة حادة، كما تجاوزّ معدّل التضخّم في فنزويلا نصف مليون بالمئة في عام 2018،  وأسفر عن ذلك ظهور تقديرات بوفاة نحو 40000 فنزويلي خلال عام واحد نتيجة نقص الغذاء والدواء والخدمات الصحية، كما تشير التقديرات إلى أن أكثر من 4 ملايين من أصل 7 ملايين مهاجر فنزويلي غادروا البلاد مباشرة بسبب التدهور الاقتصادي الناتج عن العقوبات، وبحلول عام 2020 كان قد فر نحو 5.4 مليون فنزويلي، فيما تجاوز العدد في الربع الأول من عام 2025 حوالي 7,9 مليون شخص[6]، لتصبح أكبر أزمة نزوح في تاريخ أمريكا اللاتينية. ومع ذلك فإن العقوبات الأمريكية المفروضة لم تحقق هدفها الرئيس المتمثل في إضعاف النظام الفنزويلي أو دفعه إلى التغيير، بل على العكس، تمكنت فنزويلا من بيع النفط إلى دول غير أمريكية، وتجاوزت بعض القيود المفروضة عليها، حيث كانت تعتمد بشكل كبير على أسواق مثل الصين وأوروبا لتسويق منتجاتها والالتفاف على العقوبات الأمريكية.
  • الصين: لم تكن الصين هدفًا مباشرًا لحملات “الضغط الأقصى” مثل إيران وفنزويلا، لكنها واجهت في عهد “ترامب” مجموعة من العقوبات والقيود التجارية المرتبطة أساسًا بالصراع الاقتصادي والتكنولوجي بين البلدين، فقد فُرضت قيود صارمة على شركات كبرى مثل “هواوي”، وعلى الرغم من أن هذه العقوبات أحدثت توترات اقتصادية وسياسية واضحة، فإن الاقتصاد الصيني ظل قادرًا على امتصاص آثارها نظرًا لحجمه الهائل وتنوع شركائه التجاريين، وبالتالي، مثلت العقوبات على الصين أداة ضمن استراتيجية أوسع لإعادة التوازن التجاري والحد من التفوق التكنولوجي الصيني، لكنها لم تنجح في تقويض مكانة الصين كقوة اقتصادية.

مستقبل العقوبات الاقتصادية في الولاية الثانية لترامب:

يبدو إن احتمالية تحقيق الولاية الثانية للرئيس “ترامب” نتائج أفضل من خلال العقوبات الاقتصادية أمرًا مشكوك فيه إلى حد كبير، حيث نجحت العديد من الدول المفروض عليها عقوبات أحادية، على التكيف والالتفاف على العقوبات، مثلما فعلت إيران بزيادة علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع الصين وروسيا لتخفيف آثار العقوبات، و استمرت فنزويلا في تصدير النفط، مما يوضح محدودية قدرة العقوبات الأحادية على إجبار هذه الدول على تغيير سياساتها، علاوة على ذلك، فإن العقوبات الأمريكية المفروضة بشكل أحادي، دون تنسيق دولي واسع، تفقد فاعليتها تدريجيًا مع مرور الوقت، لتصبح أداة ضغط رمزية أكثر منها وسيلة لتحقيق نتائج ملموسة على الأرض.

وعند النظر إلى ولاية “ترامب” الثانية، يتضح خلال الأشهر الأولى من عام 2025، أنه قد تم تكثيف ضغوط ترامب على إيران وروسيا، واستهداف شبكات الجريمة السيبرانية والكارتلات العابرة للحدود، كما تم تخفيف العقوبات بشكل انتقائي على سوريا وفنزويلا، بما في ذلك رفع بعض القيود عن كيانات محددة[7]، ومع ذلك يعكس هذا النهج تحوّلًا في الأولويات الاستراتيجية، حيث تُشدّد العقوبات في المجالات التي يُنظر إليها على أنها حاسمة للأمن القومي الأمريكي، وتُخفف في الحالات التي يُتوقع أن يكون استمرار الضغط فيها محدود الأثر، وبالتالي، يمكن وصف سياسة الولاية الثانية بأنها إعادة ضبط للعقوبات الاقتصادية، وتجمع بين التصعيد الانتقائي في بعض الملفات والمرونة في أخرى، دون تغيير جوهري في الأطر الأساسية للسياسة العقابية.

وختامًا، عند مراجعة التجربة الأمريكية في استخدام العقوبات الاقتصادية، يتضح أن اعتماد سياسة أحادية وغير منسقة دوليًا غالبًا ما يحدّ من فاعليتها في إحداث تغييرات حقيقية في سياسات الدول المستهدفة، وتؤكد الشواهد التاريخية أن العقوبات، رغم شدتها، غالبًا ما تُستوعب أو يُلتف عليها ويتم التكيف معها، مما يحولها إلى أداة ضغط رمزية أكثر من كونها وسيلة لتحقيق نتائج ملموسة، وعليه، يصبح من الضروري إعادة التفكير في سياسات العقوبات واعتماد استراتيجيات أكثر توازنًا، تشمل الحوار، والتفاوض، والحوافز المدروسة، لتحقيق أثر سياسي مستدام وتقليل الخسائر البشرية والاقتصادية وما ينتج عنها من حالة عدم يقين عالمي، وتباطؤ اقتصادي، فالمسار المستقبلي للعقوبات الأمريكية يحتاج إلى دمج بين الضغط المالي المستهدف وإطار دبلوماسي شامل، يتيح الوصول إلى تغييرات فعلية في السلوك السياسي والاقتصادي للأنظمة دون تحميل الشعوب ثمن العقوبات.


[1] Yoto Yotov, Et al, “The Global Sanctions Data Base”, Center for Economic Policy Research – CEPR. 2 August 2025. Available at https://cepr.org/voxeu/columns/global-sanctions-data-base?utm_source=chatgpt.com

[2] Michael Galant, “US Sanctions Policy: Frequently Asked Questions”, Center for Economic Policy Research – CEPR. 25 February 2025.  Available at https://cepr.net/publications/us-sanctions-policy-frequently-asked-questions/

[3] Peter Harrell, “Trump’s Use of Sanctions Is Nothing Like Obama’s”, Center for New American Security. 5 October 2019. Available at https://www.cnas.org/publications/commentary/trumps-use-of-sanctions-is-nothing-like-obamas

[4] Francisco Rodríguez, “The Human Consequences of Economic Sanctions”, Center for Economic Policy Research – CEPR. May 2023. Available at https://cepr.net/wp-content/uploads/2023/05/FINAL-The-Human-Consequences-of-Economic-Sanctions-Rodriguez-7.pdf

[5] Francisco Rodríguez, Silvio Rendón and Mark Weisbrot , “Effects of international sanctions on age-specific mortality: a cross-national panel data analysis“, the Lancet. August 2025. Available at https://www.thelancet.com/action/showPdf?pii=S2214-109X%2825%2900189-5

[6] UNCHR. Available at: https://www.unhcr.org/ar/emergencies/venezuela-situation

[7] “Six Months into Trump’s Second Term: Shifting Trends in U.S. Sanctions Policy and Enforcement”, Dentons. 22 July 2022. Available at https://www.dentons.com/en/insights/alerts/2025/july/22/six-months-into-trumps-second-term

benjamin
ارتدادات ضاغطة: كيف ينعكس استمرار حرب غزة على أداء الاقتصاد الإسرائيلي؟
A Somali internally-displaced person (IDP) child looks out from her family's makeshift home in Maslah camp on the outski
مخاطر متزايدة: تراجع التمويل الخارجي لمنطقة أفريقيا جنوب الصحراء
11113
تحولات نقدية: زيادة حيازة الذهب في مواجهة تقلبات السياسة الأمريكية
gaz
إمكانات واعدة: الغاز الطبيعي في منطقة المشرق العربي
Scroll to Top