توصلت الولايات المتحدة والصين في 12 مايو 2025، إلى هدنة تجارية لمدة 90 يومًا، تم خلالها خفض الرسوم الأمريكية على الصين من 145% إلى 30%، وخفضت الصين رسومها على السلع الأمريكية من 125% إلى 10%، وتُعد الهدنة أداة تفاوضية مؤقتة وسط تصاعد المنافسة العالمية في مجالات النفوذ الاقتصادي والتكنولوجيا وغيرها من المجالات، ورغم إسهام المفاوضات في تهدئة وتيرة اضطرابات الاقتصاد العالمي، فإن الأضرار الاقتصادية لا تزال موجودة، فتهديدات الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” تلوح في الأفق، ويستخدم الرسوم الجمركية كأداة تفاوضية لتحقيق أهدافه.
تطور التوجهات:
اتخذ الرئيس “ترامب” نهجًا أكثر حدة في التعامل مع السياسات التجارية، حيث بدأ في يناير 2025 بإعلان نواياه فرض رسوم جمركية لحماية الاقتصاد الأمريكي، وفي فبراير، فرض رسومًا بنسبة 10% على جميع الواردات الصينية، وردّت بكين بفرض رسوم تتراوح بين 10 – 15% على الفحم والغاز الطبيعي المسال والمعدات الزراعية الأمريكية، كما أعلن ترامب رسومًا بنسبة 25% على منتجات الصلب والألومنيوم، دخلت حيز التنفيذ في منتصف مارس.
وفي أواخر مارس الماضي، صعّد الرئيس “ترامب” الإجراءات بإعلان رسوم بنسبة 25% على السيارات، ثم في 2 إبريل، فرض حزمة رسوم متبادلة واسعة على عشرات الشركاء التجاريين، شملت الصين برسوم 67%، وردّت الصين بفرض رسوم بنسبة 34%، تبعها تهديد ترامب برفعها إلى 104%، فقابلتها بكين برفعها إلى 84%، واستمرت الحرب التجارية بالتصاعد حتى وصلت الرسوم الأمريكية على الصين إلى 145%، وردّت الصين برسوم بلغت 125% على بعض السلع الأمريكية، ما زاد من حدة التوتر التجاري بين البلدين، وصولًا إلى عقد هدنة تجارية مؤقتة بين الطرفين في 12 مايو 2025، تزيل الولايات المتحدة بمقتضاها التعريفات الجمركية الإضافية التي فرضتها على الصين في 8 إبريل و9 إبريل 2025، لكنها ستحتفظ بجميع الرسوم الجمركية التي فرضتها على الصين قبل 2 إبريل 2025[1].
قررت المحكمة الدولية التجارية الأمريكية في 29 مايو 2025 وبشكل مؤقت وقف الرسوم المتبادلة التي فرضها “ترامب”، واعتبرتها غير قانونية، مرجعةً أن قانون الطوارئ، الذي استند إليه البيت الأبيض، لا يمنح الرئيس سلطة أحادية لفرض رسوم جمركية على جميع دول العالم تقريبًا، وكان قرار المحكمة له تأثير إيجابي في الأسواق، مكملًا للتأثير الإيجابي للهدنة التجارية المؤقتة.
ورغم كونها مؤقتة، فقد شكّلت الهدنة التجارية بين الصين والولايات المتحدة خطوة نحو استعادة قدر من الثقة في العلاقات الدولية، لا سيما أن الدولتين تتمتعان بارتباطات اقتصادية واسعة مع التكتلات والدول الأخرى، وبالتالي كان من الصعب على بقية العالم الانحياز إلى أحد الطرفين في حال التصعيد الشامل للحرب التجارية، نظرًا لما قد يترتب على ذلك من آثار سلبية متبادلة على الاقتصاد العالمي.
فعلى سبيل المثال، بلغ حجم التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة نحو 865 مليار يورو عام 2024، بما يجعلها أكبر وأهم شريك تجاري لأوروبا، في حين تأتي الصين ثانيًا بحجم تبادل تجاري بلغ نحو 731 مليار يورو، وبالتالي كان من الصعب أن ينحاز الاتحاد لأي من الطرفين، كما أن محاولات الولايات المتحدة أو الصين لضم الدول لصالحهما سواء بالضغط أو التفاوض هي محاولات صعبة، نظير تأثيراتها السلبية على مستوى القطاعات التجارية والأسواق وسلاسل الإمداد، وبالتالي فإن تهدئة الأوضاع من شأنه أن يُسهم في استمرار العلاقات الاقتصادية بينهم.
ارتدادات مباشرة:
خلافًا للتوقعات، أدت الهدنة المؤقتة إلى تراجع مؤشر الدولار الأمريكي “DXY” حيث انخفض من 101,7 نقطة في 12 مايو إلى 99,2 نقطة في 30 مايو بانخفاض نسبته نحو 2,5%، مما يشير إلى أنه ليس من السهل إصلاح الضرر الذي ألحقته سياسات “ترامب” الحمائية، وذلك على الرغم من أنه يُنظر إلى الهدنة باعتبارها تراجعًا من إدارة “ترامب” عن سياسة الرسوم الجمركية، وانتصارًا لحظيًا للصين، وتكمن صعوبة إصلاح الضرر الفعلي الذي أحدثته سياسات ترامب في تراجع قيمة الدولار عالميًا، مقابل العملات الأخرى، وقد لا تنجح سياسة التخفيف الجمركي بمفردها في إعادة قيمة الدولار عالميًا بهذه السرعة، أو حتى إعادة الثقة في المؤسسات الأمريكية.
اتسمت مؤشرات الأسهم الأمريكية الرئيسية بالتباين عقب الهدنة المؤقتة، حيث ارتفع مؤشر S&P 500، من 5844,19 نقطة في 12 مايو إلى 5912,17 نقطة في 29مايو 2025 بارتفاع نحو 1,16%، بينما استقر نسبيًا مؤشر ناسداك 100 عند 10,586 نقطة خلال الفترة من 12 مايو إلى 29 مايو، على الرغم من ارتفاعه بنحو 2,53% بعد ساعات من إعلان الهدنة، بينما انخفض مؤشر داو جونز الصناعي من 42410,10 نقطة في 12 مايو إلى 42215,73 نقطة في 29 مايو بانخفاض يقدر بنحو 0,5%.
وبالنسبة لأسعار النفط، فقد ارتفعت بنحو 1,5% لتغلق عند أعلى مستوى لها في أسبوعين، حيث ارتفعت العقود الآجلة لخام برنت 1,6% لتستقر عند 64,96 دولار للبرميل، وارتفع خام غرب تكساس بما يعادل 1,5% ليستقر عند 61,95 دولار[2]، قبل أن يتراجع مرة أخرى ثم يُعاود الارتفاع ثانية، ومع ذلك فإنه من المتوقع أن تشهد أسعار النفط تقلبات حادة خلال الأيام القادمة نتيجة لتداعيات قرار المحكمة التجارية الدولية الأمريكية بوقف تنفيذ معظم الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس “ترامب”، فضلًا عن التأثيرات المحتملة بسبب احتمال فرض عقوبات أمريكية جديدة قد تُقيد تدفقات الخام الروسي والإيراني.
ومن المرجح، وفي ظل ما سبق من تطورات، أن ترتفع واردات الولايات المتحدة من الصين خلال الـ 90 يومًا القادمة، بالتزامن مع اتجاه الشركات وتجار التجزئة لتخزين البضائع الصينية، مما يعنيه ذلك من زيادة الطلب على الخدمات اللوجستية، وبما سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف الشحن والحاويات ويزيد من الضغوط التضخمية في الولايات المتحدة، كما يُتوقع أن تؤثر الهدنة بشكل خاص على التجارة الإلكترونية، خاصة الشركات الكبرى مثل “شي إن” و”تيمو”، التي تعتمد على شحن الطرود الصغيرة إلى المستهلكين في الولايات المتحدة.
المسارات المحتملة:
المسار الأول: الانخراط في مفاوضات معمقة نحو خطة استراتيجية ثابتة:
قد تستغل الصين والولايات المتحدة فترة الـ 90 يومًا التي حددتها الهدنة لعقد جولات مثمرة من المحادثات، في محاولة لإحراز تقدم ملموس في الملفات العالقة بينهما، إذ توفر الهدنة فرصة لإجراء مفاوضات أخرى حول قضايا أعمق نحو مجالات التكنولوجيا والطاقة والفضاء، لتصل الدولتين إلى مفهوم استراتيجي يكمن في تبني سياسة تجارية واستثمارية شاملة، تضعها إدارة ترامب بالتنسيق مع قيادات قطاع الأعمال، بحيث تتماشى مع الأولويات الوطنية لكل من واشنطن وبكين، مع مراعاة الأبعاد الأمنية والاقتصادية على حدٍ سواء.
المسار الثاني: تمديد الهدنة التجارية وتعزيز الاستقرار الاقتصادي:
في هذا المسار، يُرى احتمالية تمديد هذه الهدنة مع استمرار المفاوضات، والإبقاء على مستويات الرسوم الحالية، ومن شأن هذا السيناريو أن يتيح استمرار تدفق التجارة الثنائية، وتوفير قدر من الاستقرار للأسواق العالمية بدون إبرام اتفاقات ملزمة، مما يعزز جهود التعافي الاقتصادي في ظل التباطؤ العالمي، كما يُسهم هذا التوجه في تهدئة التوترات التجارية، ويمنح القطاعات الأساسية في كلا البلدين مجالًا أوسع للتكيف مع السياسات القائمة.
المسار الثالث: استمرار التوتر وتراجع الثقة:
قد تتراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها تجاه الصين، وهو ما سيؤدي إلى هدم الثقة بين الجانبين ويُصعّب من فرص إصلاح العلاقة وتهدئة التوترات على المدى القريب، وهذا التراجع قد يدعم مفهوم أن الولايات المتحدة تفقد مصداقيتها عالميًا، مما يزيد من حدة التوتر ويدفع بالعلاقات نحو مزيد من التنافس والتوتر، وفي حال فشل المفاوضات، قد تعود الرسوم الجمركية إلى مستويات أعلى، أو تمتد لتشمل قطاعات جديدة، وحينها ستبرز الحاجة لتدخل أطراف ثالثة – سواء دول محايدة أو منظمات دولية – لدعم استمرار التفاوض وتفادي التصعيد.
المسار الرابع: تحول الهدنة إلى منصة ونقطة انطلاق لإعادة تشكيل النظام التجاري العالمي:
في هذا المسار، يتم الاستفادة من هدنة الـ90 يومًا، كدافع قوي لإعادة تعريف النظام التجاري العالمي وليس فقط لإصلاح العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والصين، وبالتالي يؤدي هذا النهج إلى ظهور تحالفات تجارية جديدة لا تقتصر على الاعتماد المفرط على مركز اقتصادي واحد، ولكن على وجود تحولات جزئية في التجارة دون الوقوع تحت تهديدات في سلاسل الإمداد، هذا مع صعوبة تهميش دور الأسواق الناشئة في هذه المسار، حيث قد تتحول مناطق مثل الشرق الأوسط، وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وجنوب شرق آسيا، إلى مراكز بديلة للنمو التجاري والاستثماري، وهكذا تصبح الهدنة نقطة بداية لإعادة توزيع النفوذ التجاري بدلًا من مجرد هدنة مؤقتة بين قوتين كبريتين.
وختامًا، يتضح أن مستقبل العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين يظل محصورًا على عدة احتمالات تتراوح ما بين التهدئة المدروسة والتصعيد المتجدد، فتمديد الهدنة قد يمنح الاقتصاد العالمي فرصة للتعافي، بينما قد يؤدي تقويضها إلى عودة التوترات على الساحة العالمية، هذا مع اعتبار أن الهدنة قد تكون بداية لتحول أعمق في النظام التجاري العالمي، فقد يتجه العالم للاعتماد على العلاقات الإقليمية والثنائية بشكل أكبر في المعاملات التجارية، مع ظهور تحالفات تجارية جديدة بعيدًا عن الاعتماد المفرط على الصين أو الولايات المتحدة، وبالتالي ستحتاج اقتصاديات الدول حول العالم إلى تطوير نظمها لتكون أكثر مرونة وملتزمة بمعايير الاستدامة والشفافية، بهدف كسب الثقة وضمان سلاسل الإمداد.
[1] “Fact Sheet: President Donald J. Trump Secures a Historic Trade Win for the United States”, the White House. 12 May 2025. Available at https://www.whitehouse.gov/fact-sheets/2025/05/fact-sheet-president-donald-j-trump-secures-a-historic-trade-win-for-the-united-states/
[2] Scott Disavino, “Oil prices settle up at 2-week high as US, China ease tariffs”, Reuters. 12 May 2025. Available at: https://www.reuters.com/markets/commodities/oil-prices-rise-us-china-trade-talks-soothe-market-jitters-2025-05-12/