تمثل التحالفات واحدة من الظواهر السياسية القديمة، التي استهدفت الحفاظ على أمن الدول واستقرارها في مواجهة الأخطار والتهديدات الخارجية، والتي أصبحت عنصرًا مهمًا في سياسات الدول لتوسيع نفوذها إلى أطر جغرافية وجيوسياسية أكثر اتساعًا، وتنشأ هذه التحالفات كاستجابة لطبيعة التفاعلات المتنامية بين الدول، سواء كانت تعاونية أم صراعية، وبصرف النظر عن الأنماط والتسميات المختلفة التي تتخذها التحالفات، فإنها تعني في معناها العام التعاون بين دولتين أو أكثر لتحقيق مجموعة من الأهداف والمصالح المشتركة، في إطار البيئة الإقليمية والدولية الراهنة.
وتشير الشواهد الراهنة في منطقة الشرق الأوسط إلى حالة من السيولة السياسية والأمنية، الأمر الذي انعكس على طبيعة التحالفات والشراكات، لا سيما الدفاعية، وما تقدمه من ضمانات حقيقية، إلى جانب سيولتها وربما مرونتها الشديدة، وقابلية تفككها مع أي تطورات مستجدة.
وقد شهدت السياسات العربية والإقليمية خلال السنوات القليلة الماضية بروز مظاهر متناقضة من التفاعلات، حيث انخرطت دول المنطقة في ترتيبات سياسية استهدفت إشاعة حالة من الاستقرار الإقليمي، وانخرطت قوتان إقليميتان مؤثرتان هما السعودية وإيران في مسار واضح لتجسير الهوة واستعادة العلاقات منذ مارس 2023، فيما نجحت الدولة المصرية في بناء سياسة خارجية رشيدة قائمة على فكرة التوازنات المرنة والتوجهات المتماسكة، في محيطها العربي والإقليمي، وتجاه كل من تركيا وإيران.
وقد بدا أن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على مرحلة وحالة جديدة من التفاعلات الديناميكية بدوافع عملية خاصةً أن الاستقرار الإقليمي أصبح هدفًا في المتناول، مع حدوث “تجميد” للصراع في المناطق المأزومة في المنطقة، بيد أن هذا التفاؤل لم يدم طويلًا، حيث اندلعت الحرب الأهلية في السودان في أبريل 2023، وبعدها اندلعت الحرب في غزة، التي امتدت تأثيراتها إلى دول المنطقة بل والعالم بأسره، وأفرزت الحرب مظاهرًا جديدة، فللمرة الأولى دخلت إسرائيل وإيران في مواجهات مباشرة، بل ودخلت الولايات المتحدة على الخط في المرحلة النهائية لهذه الجولة من التصعيد بين إسرائيل وإيران ، وللمرة الأولى أيضًا هاجمت إسرائيل الأراضي القطرية، في عدوان مفاجئ وغير مسبوق.
ويُشير كل ما سبق إلى أن المنطقة أصبحت تواجه مشهدًا إقليميًا مُعقدًا، كرست فيه المواجهات من حالة عدم الاستقرار، والإدراك لدى دول المنطقة بأهمية زيادة قدراتها الدفاعية لتعزيز حالة الردع، سواء من خلال بناء قدراتها الذاتية أم الدخول في تحالفات وشراكات دفاعية، لعل من أبرزها الضمانات الدفاعية الجديدة بين قطر والولايات المتحدة، وإبرام اتفاقات دفاعية تركز على التصنيع الدفاعي المُشترك، والاتفاق السعودي الباكستاني، وغيرها من التطورات في مناطق التماس العربي والإقليمي.
ويُثير هذا المشهد الإقليمي والتحركات التي صاحبته بعض الملاحظات التي يجب التوقف عندها، وذلك كما يلي:
- الأولى: لا توفر التحالفات والعلاقات الدفاعية المتقدمة مع القوى من خارج الشرق الأوسط ضمانات ملموسة بأن دول المنطقة بمعزل عن مهاجمتها واستهدافها، بدليل أن العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة وقطر لم يحل دون استهداف الأخيرة من قِبل إسرائيل، ومع ذلك فإن هذا النمط من التحالفات لا يزال آلية يتم اللجوء إليها، وإن تغيرت بعض صوره.
- الثانية: لا توفر بعض التحالفات والشراكات آلية مستدامة لتحقيق الردع، وبالتالي فإن دورها رمزي أكثر من كونه حلًا عمليًا طويل الأمد لمجابهة التهديدات الخارجية، ويُستدل على ذلك بأن أحدث أوجه التعاون الدفاعي والأمني بين الولايات المتحدة وقطر وهو الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس “دونالد ترامب” في سبتمبر 2025 المتضمن التزام الولايات المتحدة بأمن قطر وسلامة أراضيها ضد أي هجوم خارجي، عرضة للإلغاء من قبل أي إدارة أمريكية مستقبلًا.
- الثالثة: تمتلك بعض دول المنطقة مقدرات ذاتية تُمكنها من بناء قدرات وطنية حقيقية، فإلى جانب امتلاكها نظم تسلح متطورة وفقًا لما تُشير إليه التقارير الدولية الحديثة (خاصةً التوازن العسكري لعام 2025 وتقارير معهد سيبري وراند)، فإنها تتمتع أيضًا بالوفورات المالية، التي قد تنعكس في زيادة حجم الانفاق الدفاعي، الذي يمثل أحد أهم الشروط الأولية سواء للحصول على نظم تسلح مستقبلًا أم مشروعات التحديث والتطوير الدفاعي، خاصةً برامج التوطين الدفاعي.
- الرابعة: إعادة بلورة أدوار بعض القوى الإقليمية وغير العربية ضمن معادلات المشهد الإقليمي، فمثلًا، أصبحت باكستان عنصرًا لا يمكن إغفاله ضمن البنية الأمنية الإقليمية، لا سيما أنها تسعى إلى ضم أعضاء جُدد لتحالفها الراهن مع السعودية، كما أصبح التركيز التركي يتجه بصورة أكبر صوب بناء الشراكات الدفاعية وأن تُصبح موردًا رئيسًا لنظم التسلح وتحوز على نسبة أكبر من سوق الأسلحة المزدهرة في المنطقة، وذلك بدلًا من الدخول في مواجهات وصدامات صفرية، وهو ما غلب السياسة الإقليمية لتركيا خلال سنوات قليلة مضت. وقد ظلت مصر تبني ترتيباتها السياسية والاستراتيجية لمواجهة ما يجري في المنطقة، بدليل نجاح الدولة المصرية في وقف إطلاق النار في غزة، وانخراطها مع الإدارة الأمريكية في الترتيبات المُقترحة في غزة، وتدشين القوة الدولية في القطاع.
- الخامسة: التأثير الواضح لجولات الصراع في المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية، أو حتى في الصراعات غير المحسومة بعد، على اتجاهات بناء الشراكات الدفاعية، بحيث أصبحت الدول تركز على مجابهة التهديدات الناشئة (مثل: الطائرات المُسيرة، والهجمات السيبرانية المُعقدة، وغيرها)، بل ووصل الأمر إلى السعي نحو امتلاك هذه القدرات ذاتها، وما قد يتطلبه الأمر من تعزيز العلاقات مع القوى التي تمتلكها، وقد برز ذلك في استعدادات الأطراف المختلفة للتغيرات المحتملة، حيث يُشير التوتر الراهن على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية إلى احتمالات دخول المنطقة مواجهة جديدة ستؤثر على مسار الاستقرار في الشرق الأوسط بأكمله.
وختامًا، يتضح أن الدول العربية أمام هذا المشهد الإقليمي المعقد، غير المستقر، بحاجة إلى معالجة حقيقية لكيفية التعامل معه، من خلال استراتيجيات واضحة وتوجهات أكثر رسوخًا، تأخذ في الاعتبار أهمية تنويع الشراكات السياسية والأمنية والدفاعية، والبحث عن أكثر من مورد لنظم التسلح، إلى جانب بناء قدرات ذاتية، الأمر الذي يمهد لبناء ترتيبات أمنية عربية مستدامة، تضمن على أقل تقدير أن تكون القرارات المتعلقة بأمن الدول العربية واستقرارها في المقام الأول قرارات عربية.
