شهدت الأيام الماضية تدفق المساعدات المصرية المتنوعة إلى قطاع غزة، لتخفيف معاناة أهله، وتأمين احتياجاتهم الأساسية، وقد مثلت هذه المساعدات جزءً يسيرًا من الجهود المصرية النشطة والتزامها التاريخي والأخلاقي والدبلوماسي تجاه القضية الفلسطينية وتطوراتها الهيكلية.
وقد كشفت التحركات الإسرائيلية – يعاونها في ذلك بعض المنصات المناهضة والمناوئة لمصر– عن استهداف الدولة المصرية بصورة واضحة، عبر تكثيف نشر الشائعات وقلب الحقائق، والزعم بأن مصر تغلق معبر رفح، وتمنع دخول المساعدات، وهي محاولات خبيثة لتصدير الأزمة لمصر، بالرغم من علم القاصي والداني بأنها ليست مسئولة عما يجري على الجانب الآخر من المعبر.
هذه الحملات والأبواق المسعورة الموجهة ضد مصر لم تنتبه إلى حقائق الجغرافيا والتاريخ، وقدرها الذي ارتضته مصر لنفسها، فالارتباط المصري بالقضية الفلسطينية هو ارتباط وثيق ومتماسك ومستمر طوال الفترة التاريخية الممتدة لعقود، التي خاضت فيها مصر حروبًا سياسية وعسكرية وقدمت آلاف الشهداء من خيرة أبنائها من أجل القضية الفلسطينية، وهي حقائق جلية، يصعب إنكارها أو التقليل منها، بدليل أن الأيادي المصرية الناصعة البياض لم تلوث بدم أي فلسطيني طوال فترة الصراع العربي الإسرائيلي منذ نشوبه.
وخلال الفترة التي تلت اندلاع عملية طوفان الأقصى في أكتوبر 2023، فقد كثفت مصر من جهدها السياسي الدؤوب للتهدئة ووقف الحرب الإسرائيلية على القطاع، وكذلك حشد الدعم الدولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية وعدالة قضيتها، ناهيك عن الدعم الإنساني الواسع والمكثف، وإسهامها وحدها بنحو 80% من المساعدات الإنسانية التي دخلت إلى القطاع منذ بدء اجتياحه.
لم تقتصر الجهود المصرية على التعامل مع الأوضاع الآنية فحسب، بل قدمت رؤية متكاملة تجاه مستقبل قطاع غزة والدولة الفلسطينية ككل، هذه الرؤية التي حازت على ثقة ودعم الدول العربية والإسلامية والأوروبية باعتبارها الحل الوحيد الذي تم طرحه ويتسم بقابلية تنفيذه، وقد جرى اعتمادها فيما بعد في القمة العربية الطارئة في مارس 2025 كخطة عربية لإعادة الإعمار، بل وحظيت بدعم واسع النطاق من دول العالم، في مقابل ما طُرح من مخططات غير واقعية من قبل بعض الأطراف، نتيجة عدم إلمامها بتاريخ الصراع ومحدودية قدرتها على الحل.
كما انخرطت مصر بشكل فاعل في المؤتمر الدولي الذي استضافته الأمم المتحدة بشأن التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين، في الفترة من 28 إلى 30 يوليو 2025، بقيادة فرنسا والسعودية، الذي صدر عنه وثيقة ختامية، أكدت بوضوح على الدور المصري وجهودها المبذولة للتهدئة في قطاع غزة، فضلًا عن تأييد الخطة العربية – الإسلامية لإعادة الإعمار، ودعوة الدول والشركاء كافة على المشاركة الفاعلة في المؤتمر الذي ستعقده مصر للتعافي المبكر وإعادة الإعمار في غزة، بعد أن تتوقف العمليات الإجرامية لإسرائيل في القطاع وتثبيت حالة الهدنة.
وتكشف هذه التحركات بوضوح عن طبيعة وأسلوب التعامل المصري مع القضية الفلسطينية، فمصر تتعامل بمسئولية واضحة، ولا تستأثر أو تتحفظ على الجهود الأخرى المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وتركز دائمًا على النتائج، ومدى اتساقها مع المرتكزات المصرية الرئيسة للسياسة الخارجية ومعطياتها الراسخة التي سنها السيد الرئيس ورؤيته الثاقبة تجاه التعامل مع تطورات القضية الفلسطينية، والتي من أبرزها ألا تحيد أي رؤى أو جهود عن هدف إقامة الدولة الفلسطينية، إضافةً إلى وقف أي مخططات للتهجير القسري أو الطوعي للفلسطينيين، ومن ثم تفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها.
كما يمكن قراءة هذا الموقف المصري المسئول من القضية الفلسطينية ضمن المشهد الإقليمي الأوسع، الذي يتسم بالاضطراب وتنامي مظاهر عدم الاستقرار في الجوار المباشر والنطاق الاستراتيجي للدولة المصرية ومصالحها الرئيسة، فلا تزال حالة الصراع والمواجهات تنتشر في العديد من المناطق، مثل ليبيا والسودان وسوريا وجنوب البحر الأحمر، وتؤثر بشكل مباشر على أمنها القومي، وهو ما يتطلب تبني استراتيجية استباقية للتعامل مع كل التطورات ووفق أي سيناريوهات مطروحة.
فعلى الرغم من حالة الإجهاد التي عانت منها مصر والمنطقة بعد عام 2011، فإن ذلك لم يؤثر في الرؤية والمواقف المصرية الإقليمية، انطلاقًا من المنطق المسئول الذي تتعامل به مصر، ومفاده أنه بالرغم من صعوبة بعض الجهود وارتفاع تكلفتها الاستراتيجية، فإن أي محاولات لتعزيز الاستقرار الإقليمي هو جهد يستحق العناء، ويجب أن يأخذ في الاعتبار أن التسوية النهائية للقضية الفلسطينية مفتاح الحل الحقيقي لغالبية أزمات المنطقة، ووقف كل الارتدادات التي تسببت فيها حرب غزة، وشملت المنطقة والعالم بأسره.
ويُدلل على ذلك الارتباط ما أفرزته الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من موجات من التصعيد العسكري الإسرائيلي في العديد من المناطق الأخرى (إيران – اليمن – لبنان – سوريا)، وما كشفته عن حدوث تحول في بوصلة المخاطر والتهديدات، حيث أصبحت إسرائيل العنصر الرئيس في عدم الاستقرار الإقليمي، وستظل طالما استمرت في تبني نزعة عسكرية قد تؤدي بالمنطقة لمزيد من المواجهات وعدم الاستقرار، بل وسينعكس ذلك على إسرائيل نفسها، باعتبارها دولة مأزومة، وتواجه في الوقت الراهن لحظات فارقة في وجودها كدولة في المنطقة.
من نافلة القول إن مقاربات السياسة الخارجية المصرية جعلها الفاعل الأهم وليس فقط المهم في العديد من قضايا المنطقة وأزماتها، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وأصبحت تحركاتها واستشرافها للتطورات المختلفة وكأنها تقرأ من كتاب مفتوح، خاصةً مع الخبرة المصرية المتراكمة، والثقة التي حظيت ولا تزال تحظى بها من قبل العديد من الفاعلين المؤثرين إقليميًا ودوليًا.